تقارب غواصو الأحقاف وخيوط المعازيب

بين الكلمة والصورة.. الواقعية جمعت أدب الصحراء ودراما الأحساء

التعليقات: 0
بين الكلمة والصورة.. الواقعية جمعت أدب الصحراء ودراما الأحساء
https://wahhnews.com/?p=74992
بين الكلمة والصورة.. الواقعية جمعت أدب الصحراء ودراما الأحساء
جاسم العبود

كشفت دراسة أعدتها أستاذ الأدب السعودي بجامعة الملك سعود الدكتورة أمينة بنت عبدالرحمن الجبرين بعنوان “بين الكلمة والصورة: من غواصو الأحقاف إلى خيوط المعازيب”، أن مستوى الواقعية التي صنعتْ جمهور الرواية منذ أوائل القرن العشرين، هي نقطة الأساس التي تجمع بين الرواية والدراما التلفزيونية.

ويشترك الجنسان الأدبيان في تأديتها إلى التطهير، كما تفعل معظم الأجناس الأدبية الأخرى. كما أنّ الاهتمام بالتفاصيل في العمل الروائي؛ مثل تصوير الصفات الجسدية للشخصيات، أو تصوير سلوكهم وطبائعهم، يجعل المتلقي (القارئ) يتنبأ بها بدرجة معقولة من اليقين، فضلاً عن تكوّن صورة ذهنية خاصة لكل متلقٍ، وهذا لا يحدث في الدراما التلفزيونية، لأنً الجميع يطّلع على هذه الصفات ويتبيّنها في الوقت نفسه.

وإذا كنّا عادةً نتخطّى اللقاء العرضي بين شخصيتين غير مهمتين في المسلسل التلفزيوني، بسبب قيود الوقت، فإنّ ذلك لا يمكن تحققه في الرواية، لأنها تزخر بقصصٍ جانبية تجري بالتوازي مع القصة الرئيسة، مثل هذه القصص تسهم في بناء الشخصيات، وتحريك الأحداث، وقد تشترك في رسم نهاية الرواية.

وأشارت الدكتورة “الجبرين” إلى تقارب جنسان الدراسة – رواية غواصو الأحقاف ومسلسل خيوط المعازيب – تقاربًا مدهشا، سواء على مستوى الحبكة أو الشخوص أو تفاصيل المكان، حيث تدور أحداث “غوّاصو الأحقاف” في نجد، وهي تعزى إلى أدب الصحراء، وتوثّق الموروث النجدي، في حين تدور أحداث “خيوط المعازيب” في الأحساء، وتوثّق الموروث الأحسائي، فضلاً عن جمع الجنسين؛ الرواية والدراما التلفزيونية بين صورة السعي لطلب الرزق، من خلال الغوص في غوّاصو الأحقاف، أو من خلال “الشركة” والمقصود هنا شركة أرامكو، في خيوط المعازيب.

ولا ننسى حضور البحرين في الروايتين، على الرغم من أنّ حضورها كان لماماً في الرواية وفي المسلسل على السواء، أمّا على مستوى الشخوص فتقترب تمثّلات المرأة في غوّاصو الأحقاف كثيراً من تمثّلاتها في خيوط المعازيب.

الفترة الزمنية
تقدّم غوّاصو الأحقاف تمثيلاً للمرحلة التي سبقتْ تأسيس الدولة السعودية الحديثة، ما بين عامي 1903 – 1907 تقريباً، وهي الفترة التي كانت فيها المواجهة بين أبن رشيد وأبن سعود، لم تصرّح الرواية بالفترة الزمنية، لكن من خلال وصف المكان والحياة الاجتماعية يتبيّن للمتلقي أنّها في الفترة التي سبقت تأسيس الدولة السعودية الحديثة، أمّا خيوط المعازيب فتدور أحداثها في فترة الستينيات، تحديداً في عهد الملك فيصل، ولم يصرّح المسلسل بالمرحلة الزمنية أيضاً، لكن صور الملك فيصل رحمه الله، المعلّقة في قسم الشرطة إلى جانب صورة الملك عبد العزيز تدلّنا على ذلك.

الثيمة
يلتقي العملان في الثيمة الأساس، وجوانب عديدة من الحبكة وحتى الشخوص، وتتحدد الثيمة الأساس للعملين في: العلاقة بالمكان، ويتمثّل المكان في مزارع النخيل والمنازعات حول مجرى السيول، أما المكان الآخر فهو القصور، الذي يمثّله “قصر وثيل” في غواصو الأحقاف، وقصر “بو عيسى” في خيوط المعازيب.

العنوان
عنوان الرواية واسم المسلسل، كلاهما ينفتح على مستويات عميقة من الأصالة والدلالة الجمالية، ممّا يدل على أنّه يقدّم شحنة دلالية عالية، إذ يحيلنا على الشخوص، وهم: الغواصون والمعازيب، والشخوص كما نعلم أحد أعمدة الحبكة وعامل التحليل السيكولوجي الأساس، والشخوص الحاضرة في العنوان تبدو ذات دلالة تردادية حسب مفهوم غريماس، بمعنى أنها توحّد وتبني الأثر بفعل منظومة إحالة واستدعاء، حيث تتمثّل الإحالة إلى الغواصين في الوقت الذي يتمثّل استدعاء الأحقاف، في حين تتمثّل الإحالة إلى المعازيب، ويتمثّل استدعاء الخيوط بوصفها المنطلق الرئيس لتكوّن الشخصية وتطوّرها، وإن كان المكان حاضراً في عنوان الرواية “الأحقاف”، فإن الخيوط في اسم المسلسل تحيل إلى البشوت، التي تشي بالوجاهة والحظوة المرتبطة بصورةٍ أو بأخرى بالمعزّب، ووصف “المعزّب” مرتبطٌ بالمكان الذي يعزّب فيه الوجيه ضيوفه. من هنا بدا حضور العمق المكاني إلى جانب الشخوص في عنوان الجنسين موضوع القراءة حضوراً مركزياً.

المكان: قصر وثيل وقصر بو عيسى
يحضر المكان بوصفه المحرك الرئيس في الرواية والمسلسل على السواء؛ حيث ضمّ أكبر عدد من الشخصيات والأحداث في الرواية، فضلاً عن كون الشخصيات التي سكنتْ هذا القصر هي من الشخصيات الرئيسة والفاعلة في الرواية.
يضم قصر وثيل ثلاثة أقسام؛ القسم الأول مجلس وثيل، وتبدو فيه الشخصية الرئيسة “عمّوش” وقورة ومهيبة، أمّا القسم الثاني من القصر فهو مكان تجمّع نساء القصر، ولا تختلف عن شخصية “عمّوش” فيه عن شخصيته في المجلس، وإنْ كان يظهر ليناً مع أمه وزوجة أبيه، أمّا القسم الثالث من قصر وثيل فهو الروشن، وتحضر فيه شخصية “عمّوش” قاسية وجافّة في روشنه الخاص مع زوجته نفلا.

أمّا قصر “بوعيسى” فيكاد يكون البطل الرئيس في مسلسل “خيوط المعازيب”، فالبيت يضم ثلاثة أقسام، هي: مجلس المعزّب “بو عيسى” الذي تُخاط فيه “البشوت”، ويقدّم هذا المجلس صورة من صور الهيمنة والتسلّط والبخل واستغلال النفوذ، كما يقدّم تفاصيل حول أكثر المهن الحرفية شهرةً في منطقة الأحساء، والمجلس الآخر هو الذي يستقبل فيه بو عيسى ضيوفه، ويظهر فيه بو عيسى بشخصيةٍ أخرى مختلفة تمام الاختلاف عن شخصيته في المجلس الأول، حيث يبدو هاشاً باشاً، سمحاً كريماً ومضيافاً، والقسم الثالث من قصر بو عيسى هو داخل القصر، ويضم حجرات القصر التي تقطنها نساؤه الثلاث وأبنه وأبنته، كما يضم أيضاً “الحَوِي”، وهي الساحة الداخلية غير المسقوفة في وسط البيوت قديماً وتُطلّ عليها حجرات القصر جميعها.

قصر وثيل
جاءتْ الإشارة مباشرة إلى القصر “ثلاث جُبيْلات” متلاصقة، لكنها تبدو من بعيد كثلاث قمم لجبل واحد، على سفوحها تتراص بيوت الفوزانيين، يتسيّدها على القمة الأعلى قصر وثيل، وسمي بهذا الاسم بسبب غرس أشجار الأثل على حوافه لتحيط بالقصر كسوار أخضر”.

قصر بو عيسى
يبدو متسيّداً بيوت الحيّ كافّة، يحتوي على عددٍ من الشبابيك مستطيلة الشكل، يعلو كل واحدٍ منها ثلاث قطعٍ من الزجاج الملوّن، تبدو خلفه مزرعة النخيل، وتظهر نخلة قريبة من البيت مغروسة خارج أسواره.

مجلس وثيل
حجرة مستطيلة، نوافذها المثلثة أشبه بمناخر صغار نائمين، تستنشق النور وتزفر دخانَ وجارِ النارِ العريض، في صدره بنيت أرفف طينية بقباب كأسنمة، واصطفّتْ عليها دلال القهوة الذهبية، وعلى جدرانه مساند لظهور الرجال محشوة بالتبن، رائحتها تمتزج بعبق السمر في الوجار فتصنع له بصمة في ذاكرة مرتاديه.

مجلس بو عيسى
حجرة مستطيلة، نوافذها تختلف عن نوافذ مجلس قصر وثيل، ولا شكّ أنّ ذلك يعود إلى اختلاف الفترة الزمنية بين الرواية والمسلسل. يتصدّر المجلس أرفف طينية تماماً مثل قصر وثيل، تصطف فيها إلى جانب الدلال قطعة من الفخار، وصناعة الفخار تتركز في كثير من المناطق في دول الخليج، لكنها تتركز في الأحساء بشكلٍ خاص، وهي من أهم الحرف اليدوية والشعبية بمنطقة الأحساء، وعلى الجدران أيضاً مساند لظهور الرجال محشوة بالتبن، وتظهر هنا “مساند أبو طير” كما يطلق عليها العامّة.

من هنا بدا لنا تحقق جمالية المكان في غوّاصو الأحقاف أكثر من خيوط المعازيب، ذلك أنّ جمالية المكان لا تتحقق من مجرد تحديد أبعاده، وإضفاء الصفات المنطقية عليه كما هو الحال في المسلسل التلفزيوني، بل إنّ الأمر يتجاوز ذلك إلى براعة التخييل؛ ذلك بإظهار الجانب الخيالي للمكان لاستثارة عاطفة المتلقي تجاه تلك الأماكن المتخيّلة، وهنا تكمن براعة الروائي في التجاوز بالمتلقي من جغرافية المكان الواقعية إلى الوصف التخيلي الذي من شأنه أن يخلق ألفةً مع ذلك المكان. ونلحظ أنّ “قصر وثيل” ورد اسمه هكذا في الرواية، وهو الأمر الذي جعل له صورة ذهنية ذات أبعادٍ لا محدودة، في حين لم يطلق على قصر “بوعيسى” قصراً، لكنه بصفاته الحاضرة في المسلسل يعطى سمة القصر.

حضور المرأة في علاقتها بالرجل
كان حضور المرأة في العملين استثنائياً، فحضورها ينفي القول بتشييئ المرأة، فهي تحضر في دور المتودّدة لزوجها، والمتفانية في كسب رضاه، لكنّها في الوقت نفسه لها رأيها الخاص الذي تعبّر عنه بلا قيود، وتتزوج برضاها وتطلب الطلاق للانتصار لكرامتها، وتعاتب الرجل وتحاسبه، فلم تكن مهمّشة في أيٍّ من العملين، وهي صورة يندر حضورها في أدب الموروث، إذ غالباً ما تحضر المرأة في صور التهميش والإقصاء.

توثيق الموروث
الموروث هو مجموع نتاج الحضارات السابقة التي تُورث من السلف إلى الخلف، وهي نتاج تجارب الإنسان ورغباته وأحاسيسه، ويشمل ميادين العلم واللغة والأدب والفن العمراني والتراث الفلكوري والاقتصادي وغيرها، والموروث على شكلين، هما: مادي؛ وهو التراث الملموس ويرى بالعين، وغير مادي؛ وهو الذي يخاطب العقل والفكر، ويتضمّن الآداب والفنون بأنواعها مثل الغناء والرقص والحكايات الشعبية.

ولم تشذ الرواية ولا المسلسل عن غيرهما من الأعمال في نقل التراث الثقافيّ للمجتمع السعودي بجمعه وتدوينه في نصّ روائيّ أو مسلسل تلفزيوني، متح من التراث الشعبيّ ومن يوميات الإنسان السعودي في طريقة عيشه وكيفية لباسه، وفي أفراحه وأتراحه وفي عاداته وتقاليده، ونقلت لنا الواقع اليوميّ بتفاصيله كافّة إلى خطاب فنيّ أو مشهد درامي، جسّد تلك المرويات والمحكيات التي تُدار في الزوايا وحفلات الأعراس وفي مجالس النّسوة وفي الأزقّة، وغيرها من المرويّات التي تقارع النسيان وتنشد الديمومة والاستمرار والخلود.

وتحضر المرأة بوصفها المحرك الرئيس للموروث في “غوّاصو الأحقاف”، أمّا في “خيوط المعازيب” فكان الرجل هو المحرك الرئيس للموروث.

الموروث المادي في غوّاصو الأحقاف

مشهد الخَبز في التنور
“تحت قمر اكتمل بدراً عجنت بتلا مُدَّ بُرٍ بالكثير من الملح، خفرة راقبت أمها حتى ابتعدتْ عن التنور، قعدت نفلا عنده مشمّرة عن ساعدها، كوّرتْ العجينة ونقّلتها بين يديها عدة مرات حتى استطالتْ، بخفّة استندتْ بيدها اليسرى على جانب التنور الأسطواني، وأدخلتْ جذعها فيه حتى تمكّنتْ من لصق الرغيف قريباً من الجمر”.
مشهد المشّاطة

اللحم المقدد
“تتجه الفتاة (نفلا) للحم المقدد على جبل بين نخلتين، تكسر طرف قطعة، ثم تجمعه في ردنها”. واللحم المقدّد هو ما يُطلق عليه العامّة “القفر، وهو تجفيف اللحم بتقطيعه قطعاً صغيرة طولية، وتعليقه على الحبال في الهواء الطلق حتى يجُف، ليكون جاهزاً للأكل، وهي وسيلةً لحفظ اللحم قبل دخول الكهرباء واستخدام الثلّاجات.

غير المادي
الاعتزاء بالأخت

الشعر
وقد تضمّنتْ الرواية عدداً من الأبيات الشعرية، لعلّ أكثرها طرافة، الأبيات التي اعتدن نساء العقيق التغني بها حين يتزوج الرجل على امرأته:

جعله يجينا هاربٍ منحاش …. متحسّفٍ يلعن خطاطيبه

الرقص

الموروث في خيوط المعازيب

المادي
ويتضمّن بيوت الطين، ولباس النساء (الثوب المشجّر ذو القطعة الواحدة)، وأنواع الأكل مثل الهريس وغيره، أمّا أبرز موروثين ماديين ظهرا في المسلسل فقد كانت من نصيب الرجل؛ تلك هي:

خياطة البشوت
ومثّلتْ موروثاً للرفاهية، وليس للحاجة، وتضمّنتْ آلة الخيوط، وطريقة الخياطة، والصبية الخياطين وغيرها، ولعل الغريب في الأمر هو إقصاء المرأة عن حرفة خياطة البشوت في المسلسل، على الرغم من أنّها كانت المنوطة بخياطة البشوت في الأحساء قديماً، فلم تشارك المرأة في خياطة البشوت في المسلسل إطلاقاً.

صناعة الفخار
ومثّلتْ أيضاً موروثاً للرفاهية، وتشتهر صناعته في الأحساء خاصّة، وتظهر في المسلسل عدداً من المقاطع التي يقدّم فيها جاسم مهارته في صناعة الفخار.

الموروث غير المادي
وتمثّل اللهجة الحساوية أهم موروث غير مادي وُثّق في المسلسل، ذلك من خلال استبدال ياء المتكلم بــ”يَه”، أختيَه، بنتيَه، بيتيَه وغيرها.

حضور المطوّعة
وهي المرأة التي كانت تُقرئ النساء والفتيات القرآن قديماً، حيث تستقبلهم في منزلها وتحفّظهم القرآن.

الغناء والطرب والرقص
في احتفالات الزواج (مثل يوم الحنا، وليلة الدخلة)، ومن الأبيات التي غُنّيَتْ في المسلسل:

قايد الريم تاخذني عليه الشفاقة ليتني طول عمري دبلة في يمينه.. وأيضا ماتشوف إنك بطيت.. ما تشوف إنك على عمري وطيت

اسم المسلسل
المعزب: مفردة فصيحة وردت في معاجم اللغة تحت مادة عزب، التي يتفرع عنها عدد من المفردات، وفي لسان العرب لابن منظور حديث مطول عنها، جاء من ضمنه “قال الأزهري ومُعَزِّبةُ الرجل امرأته يأوي إِليها فتقوم بإِصلاح طعامه.

أما في لهجتنا العامية فلكلمة معزب وجمعها “معازيب” أكثر من معنى، أشهرها صاحب العمل والمضيف، فإذا عمل أناس لدى أحد في دكان أو مزرعة أو غيرها فهو المعزب، وإذا سافر أناس ونزلوا في ضيافة شخص فهو معزبهم، وتقال لو أقام شخص وليمة ودعا لها أصدقاءه. وقد كثر استخدام الكلمة في الشعر النبطي منذ بداية القرن 13 الهجري.

وهكذا، يبدو حضور الموروث في المسلسل أكثر منه في الرواية، ولعلّ ذلك يعود إلى اللغة السينمائية التي هي في أصلها لغة دلالية، في حين أنّ اللغة التجريبية في الرواية يصعب عليها الهيمنة الكاملة على النص، فمرة للسرد ومرة للوصف ومرة يقدّم بها أفكاره وأحاسيسه.

 

التعليقات (٠) اضف تعليق

اضف تعليق

بريدك الالكترونى لن نقوم بأستخدامه.

You may use these HTML tags and attributes:
<a href="" title=""> <abbr title=""> <acronym title=""> <b> <blockquote cite=""> <cite> <code> <del datetime=""> <em> <i> <q cite=""> <s> <strike> <strong>