أمل الحربي ‏تكتب: ماذا لو لم يراك أحد؟

التعليقات: 0
أمل الحربي ‏تكتب: ماذا لو لم يراك أحد؟
https://wahhnews.com/?p=91291
أمل الحربي ‏تكتب: ماذا لو لم يراك أحد؟
الواحة نيوز

‏«لا أريد أن يراني الناس جميلًا… أريد فقط ألا أُرى قبيحًا.»‏
الأديب رجاء عليش – من أدباء العصر الحديث
كان واحدًا من تلك الأرواح التي تمشي بخفوتٍ يشبه ظلّ الغيم، يُضيء من الداخل ولا يلمحه ‏أحد. عاش في النصف الثاني من القرن العشرين، ولم يترك وراءه إلا أثرًا نحيلًا: كتابه ‏الأبرز «لا تُولَد قبيحًا»، ومجموعة من النصوص المتناثرة التي تكشف هشاشته ونبله.‏
كان وجهه مصدر ألمه الأكبر، فقد جاء في شهادات معاصريه أنه كان يعاني من قبحٍ ‏ظاهري، جعله يتراجع خطوة خلف العالم كلما تقدّم. لكنه لم ينكسر من ملامحه… بل من ‏العيون التي لم ترَه.‏
كتب في أحد نصوصه:‏
‏«القبح الحقيقي… أن تعيش عمرًا كاملًا دون عينٍ تعرفك.»‏
رغم موهبته، بقي مجهولًا، حتى بين المهتمين بالأدب.‏
‏ لم يجد ذلك الشخص الذي يقول له: “أنا أراك”، فظلّ في عتمةٍ يصنع منها لغة، وفي يدٍ ‏ترتجف يكتب بها نوره الأخير.‏
وعلى الضفة المقابلة، يقف جُليبيب — الرجل الذي تشابهت ملامه وقسوته مع عليش، لكن ‏مصيره سار في اتجاه آخر.‏
كان الناس يزهدون فيه، حتى قال — في رواية شائعة — للرسول ﷺ:‏
‏«يا رسول الله… تراني كاسدًا؟» ‏
كانت تلك الصيغة المريرة تشير إلى أن الرجل كان يرى نفسه بضاعة لا تُطلَب، وقلبًا ‏موضوعًا على رفّ مهمل.‏
لكن الفارق أن رسول الله ﷺ كان بصرًا وبصيرة.‏
رآه…‏
وقف معه…‏
واختار له زوجًا صالحة حين زهد به الناس…‏
وحين مات شهيدًا، وقف النبي ﷺ عند جسده وقال:‏
‏«هذا مِنّي وأنا منه.»‏
كلمة واحدة أعادت لروحه كل ما فقده.‏
كأن السماء أمسكت بيده حين أفلتته الدنيا.‏
وقد يردّ أحدهم:‏
‏«لكن عنترة العبسي أيضًا كان عبدًا أسود قبيحًا، ومع ذلك لمع نجمه وخلّد التاريخ اسمه!»‏
وهذا صحيح.‏
لكن عنترة لم ينتصر لأنه جميل، ولا لأن الناس رأوا جوهره…‏
بل لأن معايير زمانه كانت تمجّد القوة والبطولة والشعر والسيف.‏
واجه القبح بالشجاعة، فاحترمه قومه.‏
نجح لأن الزمن أعطاه نافذة، لا لأن العالم رحيم.‏
بينما أزمنة أخرى تخنق الموهوبين لأن وجوههم لا تشبه هوى الناس.‏
وهذا ما حدث مع (رجاء عليش).‏
موهبة عالية…‏
قلب طاهر…‏
لكن لا عين تُنصت له، ولا زمنٌ يلتقطه من بين الزحام.‏
وفي جوهر هذه الأمثلة الثلاثة:‏
جُليبيب ارتفع لأنه وُجد من يراه.‏
عنترة لمع لأن عصره كان يمجّد ما يجيده.‏
أما (رجاء عليش)… فلم يجد لا الشخص المناسب، ولا الزمن المناسب.‏
وهذه أقسى خسارة يمكن أن يعيشها إنسان.‏
ومن عُمق التجربة الإنسانية تأتي كلمات الشافعي لصاحبه:‏
‏«إني مكروبٌ… فلا تُغلِق عليّ.»‏
فالإنسان، أيّ إنسان، يحتاج إلى وجهٍ واحد فقط يقف إلى جواره.‏
مجرد شخص واحد يمكنه أن يُعيد للروح أنفاسها، ويُضيء ما انطفأ، ويمنح القلب اعترافًا ‏يحتاجه ليبقى حيًّا.‏
ولم يجد عليش هذا الوجه.‏
ومضى في صمته، تمامًا كما عاش فيه.‏
ولو التفت إليه إنسان واحد فقط… ربما كانت نهايته مختلفة، وربما لم يمت مجهولًا كحرفٍ ‏سقط من سطرٍ لم يُقرأ.‏

التعليقات (٠) اضف تعليق

اضف تعليق

بريدك الالكترونى لن نقوم بأستخدامه.

You may use these HTML tags and attributes:
<a href="" title=""> <abbr title=""> <acronym title=""> <b> <blockquote cite=""> <cite> <code> <del datetime=""> <em> <i> <q cite=""> <s> <strike> <strong>