«لا أريد أن يراني الناس جميلًا… أريد فقط ألا أُرى قبيحًا.»
الأديب رجاء عليش – من أدباء العصر الحديث
كان واحدًا من تلك الأرواح التي تمشي بخفوتٍ يشبه ظلّ الغيم، يُضيء من الداخل ولا يلمحه أحد. عاش في النصف الثاني من القرن العشرين، ولم يترك وراءه إلا أثرًا نحيلًا: كتابه الأبرز «لا تُولَد قبيحًا»، ومجموعة من النصوص المتناثرة التي تكشف هشاشته ونبله.
كان وجهه مصدر ألمه الأكبر، فقد جاء في شهادات معاصريه أنه كان يعاني من قبحٍ ظاهري، جعله يتراجع خطوة خلف العالم كلما تقدّم. لكنه لم ينكسر من ملامحه… بل من العيون التي لم ترَه.
كتب في أحد نصوصه:
«القبح الحقيقي… أن تعيش عمرًا كاملًا دون عينٍ تعرفك.»
رغم موهبته، بقي مجهولًا، حتى بين المهتمين بالأدب.
لم يجد ذلك الشخص الذي يقول له: “أنا أراك”، فظلّ في عتمةٍ يصنع منها لغة، وفي يدٍ ترتجف يكتب بها نوره الأخير.
وعلى الضفة المقابلة، يقف جُليبيب — الرجل الذي تشابهت ملامه وقسوته مع عليش، لكن مصيره سار في اتجاه آخر.
كان الناس يزهدون فيه، حتى قال — في رواية شائعة — للرسول ﷺ:
«يا رسول الله… تراني كاسدًا؟»
كانت تلك الصيغة المريرة تشير إلى أن الرجل كان يرى نفسه بضاعة لا تُطلَب، وقلبًا موضوعًا على رفّ مهمل.
لكن الفارق أن رسول الله ﷺ كان بصرًا وبصيرة.
رآه…
وقف معه…
واختار له زوجًا صالحة حين زهد به الناس…
وحين مات شهيدًا، وقف النبي ﷺ عند جسده وقال:
«هذا مِنّي وأنا منه.»
كلمة واحدة أعادت لروحه كل ما فقده.
كأن السماء أمسكت بيده حين أفلتته الدنيا.
وقد يردّ أحدهم:
«لكن عنترة العبسي أيضًا كان عبدًا أسود قبيحًا، ومع ذلك لمع نجمه وخلّد التاريخ اسمه!»
وهذا صحيح.
لكن عنترة لم ينتصر لأنه جميل، ولا لأن الناس رأوا جوهره…
بل لأن معايير زمانه كانت تمجّد القوة والبطولة والشعر والسيف.
واجه القبح بالشجاعة، فاحترمه قومه.
نجح لأن الزمن أعطاه نافذة، لا لأن العالم رحيم.
بينما أزمنة أخرى تخنق الموهوبين لأن وجوههم لا تشبه هوى الناس.
وهذا ما حدث مع (رجاء عليش).
موهبة عالية…
قلب طاهر…
لكن لا عين تُنصت له، ولا زمنٌ يلتقطه من بين الزحام.
وفي جوهر هذه الأمثلة الثلاثة:
جُليبيب ارتفع لأنه وُجد من يراه.
عنترة لمع لأن عصره كان يمجّد ما يجيده.
أما (رجاء عليش)… فلم يجد لا الشخص المناسب، ولا الزمن المناسب.
وهذه أقسى خسارة يمكن أن يعيشها إنسان.
ومن عُمق التجربة الإنسانية تأتي كلمات الشافعي لصاحبه:
«إني مكروبٌ… فلا تُغلِق عليّ.»
فالإنسان، أيّ إنسان، يحتاج إلى وجهٍ واحد فقط يقف إلى جواره.
مجرد شخص واحد يمكنه أن يُعيد للروح أنفاسها، ويُضيء ما انطفأ، ويمنح القلب اعترافًا يحتاجه ليبقى حيًّا.
ولم يجد عليش هذا الوجه.
ومضى في صمته، تمامًا كما عاش فيه.
ولو التفت إليه إنسان واحد فقط… ربما كانت نهايته مختلفة، وربما لم يمت مجهولًا كحرفٍ سقط من سطرٍ لم يُقرأ.
أمل الحربي تكتب: ماذا لو لم يراك أحد؟
التعليقات: 0