يُعدّ العمل التطوعي قيمة إنسانية راسخة، تتجذر في الوعي وتعبّر عن مدى انتماء الفرد ومسؤوليته تجاه مجتمعه. فهو ليس مجرد قيام بعمل إضافي، بل ممارسة حضارية تعبّر عن وعي الإنسان بدوره في إعمار الأرض وتحقيق الخير.
ومنذ القدم، عُرفت المجتمعات العربية بروح التعاون بين الجيران، وبالعادات الاجتماعية التي تعكس تماسك المجتمع وحرصه على مساندة أفراده وقت الحاجة، وهي قيم أصيلة بقيت حاضرة إلى اليوم وأصبحت أساسًا لنظام تطوعي مؤسسي ومنظم يشارك فيه الجميع.
ويُعرَّف التطوع بأنه مبادرة يقوم بها الفرد لتقديم الجهد أو الوقت أو المهارة دون مقابل مادي، رغبةً في خدمة الآخرين وتنمية مجتمعه، وتتدرج مستويات التطوع من الأعمال الفردية البسيطة إلى المبادرات الجماعية الكبرى، وصولًا إلى التطوع المؤسسي والمتخصص الذي يعتمد على احترافية المتطوع وقدرته على إحداث أثر ملموس، سواء في المجال الصحي أو الثقافي أو البيئي أو التقني أو غيرها من المجالات المتعددة التي تمنح كل فرد الفرصة ليعطي وفق شغفه وقدراته.
لقد أسهمت القيم الاجتماعية المتوارثة في تعزيز حضور التطوع في المجتمع، إذ إن تعاون الجيران وفزعتهم وتكاتف الأسر والحرص على الخير، كلها ممارسات اجتماعية تعزّز الترابط، وتخلق مجتمعًا يصنع أثره بنفسه، وهذه العادات ليست مجرد موروث ثقافي بل هي منظومة سلوكية تدعم بناء مجتمع قوي ومتماسك وقادر على مواجهة تحدياته بوعي واستعداد.
إن مشاركة الفرد في العمل التطوعي تعكس إحساسه بالتكامل الاجتماعي، وتُسهم في تعزيز الانتماء الوطني، ورفع مستوى جودة الحياة، وتوثيق العلاقة بين المواطن ومؤسساته. فالمتطوع شريك حقيقي في التنمية، ومسؤوليته أن يتحلى بالانضباط والالتزام والأمانة واحترام الأنظمة والعمل بروح الفريق، وهي واجبات أساسية تجعل العمل التطوعي أكثر احترافية وتأثيرًا، كما يحتاج المتطوع إلى معرفة حقوقه واكتساب المهارات المناسبة للمجال الذي يشارك فيه، والتدريب على أداء المهام بما ينعكس على جودة العمل ونمو الخبرة لديه.
ويمثل التطوع رافدًا مهمًا لتحقيق أهداف التنمية المستدامة، إذ يسهم في دعم الجهود الوطنية في القضاء على الفقر ورعاية الفئات المحتاجة، وتعزيز الصحة الجيدة، ورفع جودة التعليم، وحماية البيئة، وتحقيق الشراكات بين الجهات المختلفة، وكل عمل تطوعي هو خطوة نحو مجتمع قادر على التنمية المستمرة والابتكار وتحقيق الرفاه.
ويرتبط التطوع ارتباطًا وثيقًا برؤية المملكة العربية السعودية 2030 التي جعلت من تعزيز العمل التطوعي هدفًا وطنيًا كبيرًا، من خلال رفع عدد المتطوعين سنويًا، وتنظيم العملية التطوعية عبر المنصات الرسمية، وإتاحة فرص متنوعة تتناسب مع مهارات الأفراد وشغفهم. وقد أصبحت الجهات الحكومية اليوم شريكًا فاعلًا في توجيه العمل التطوعي ودعمه وتطويره، بما يضمن أعلى درجات الجودة والأثر.
وتوثّق النماذج الوطنية الملهمة تاريخًا طويلًا من العطاء، سواء في المجالات الخيرية أو الصحية أو التعليمية أو الثقافية أو البيئية، فالمجتمع السعودي حافل بأشخاص قدّموا تجارب تُحتذى بها، وأسهموا بأعمال تركت أثرًا باقٍ في خدمة الإنسان والوطن، إضافة إلى الجمعيات الرسمية التي أصبحت نموذجًا احترافيًا لتنظيم الجهود وتحويل التطوع إلى صناعة اجتماعية محكومة بمعايير وأهداف واضحة.
وهكذا يتجلى التطوع كرسالة إنسانية قبل أن يكون ممارسة اجتماعية، فهو أسلوب حياة يجمع بين القيم والمبادئ ويُسهم في بناء مجتمع متماسك وواعٍ وقادر على صناعة مستقبله، وكل ساعة من العطاء تُسهم في إعمار الأرض، وترسّخ قيم الإحسان والمسؤولية، وتدفع بعجلة التنمية نحو وطنٍ مزدهر يشارك أفراده في بنائه بكل محبة وإخلاص.