أكد الأستاذ المشارك في كلية الآداب بجامعة الملك فيصل الدكتور زكي بن صالح الحريول أن النقد الأدبي يعتبر كشافًا مسلطًا على الحالة المعرفية والثقافية في المجتمعات، فإن تسللت الأمراض إلى النقد الأدبي فأنها تسللت في الدوائر الثقافية والمعرفية ودور النشر والتأليف والأبحاث والكتابة والتحكيم والمسابقات، وربما حتى الرسائل الأكاديمية كالدكتوراه والماجستير.
وأضاف الدكتور “الحريول” خلال حديثه في ندوة بعنوان “النقد الأدبي بين الفعالية والمجاملات الرقمية والإعلامية” نظمتها جمعية أدباء يوم الثلاثاء الماضي: يتحدث علماء الاجتماع عن المجتمع الجوهر والمجتمع الشكل، كما يتحدثون عن ثقافة الإتقان والإحسان والعمل الجماعي والعمل التطوعي، فهي قيم نشتمها في كثير من الحضارات التي قفز من ضمنها وفي ناصيها الحراك النقدي.
وبين أن التاريخ الأوربي يؤرخ بداية التفوق الغربي والأوربي الذي نتفيأ ظلاله وظلال صناعاته وتقنياته و ذكاءاته المتعددة، كانت بحركة نقدية حدثت في عصر الأنوار، وبالتالي الحديث عن النقد هو حديث جوهري في المجتمعات التي تريد النهوض بنفسها.
وقال: نتحدث عن العلوم الإنسانية في مقابل العلوم التطبيقية وضغط المجتمعات وثقافة المجتمع اليوم والسوق الذي يتحدث عن العلوم التطبيقية أكثر من العلوم الإنسانية، وربما حمول ثقافية منذ زمن يجب أن نتخلص منها، فكل عناصر تحضير المجتمعات للتطور والمدنية تأتي عن طريق العلوم الإنسانية، كعلم الاجتماع وعلم النفس وعلم المنطق.
وتحدث عن النقد الأدبي بين الفاعلية والمجاملات، مستشهدًا بقول علماء الطبيعة: بأن الطبيعة تكره الفراغ، فإذا خلت الساحة الثقافية من مصداقية النقد القويم، فبالضرورة سيملئ المكان المجاملات التي يبدو أننا وصلنا إلى مرحلة أصبح يتقزز منها كل من يعشق القصيدة العربية والسرد العربي وكل من يخلص للأجناس الأدبية.
وعن أسباب المجاملات وأسباب هذه الأزمة، قال: نرى أساطين النقد العربي يشتكون من هذه الأزمة، وأن كل قضية تتعلق بالعلوم الإنسانية لا يفوتنا إرجاعها إلى علم النفس الحديث المتحرك، فهو كفيل بفك شفرات الإنسان المعاصر.
وذكر الدكتور “الحريول” أن علماء الاجتماع يقولون: “روح الحضارة أنثى”، وكلما تحضر الإنسان وترفه مال إلى الليونة والنعومة، ولذلك كلما تحضر المجتمع فازت الأنثى بمكتسبات لا يمكن أن تصل إليها قبل ذلك.
وأشار إلى الإنسان المرفه المنعم الذي لم يعد يقبل النقد كالإنسان القديم، وكيف جاءت الحضارة وسكت معها قوانين التشهير والتنمر، مصطلحات بدأت تكثر كلما ترفه الإنسان وأصبحت حساسية النقد أو حساسية المواجه لديه أكبر، ولهذا السبب الحضارة تسك له هذه القوانين التي في حد ذاتها طيبة، ولكن لو تأملنا في سيرة أجدادنا نجد أنهم لم يكانوا بهذه القدر من الحساسية، بل كانوا يتحركون في المجتمع ولديهم القدرة على تقبل النقد وربما كان ردهم جاهزًا، عكس الإنسان المعاصر.
واستشهد بقول أحد علماء النفس: “جهازنا العصبي بعد ما أصبح أكثر دقة، غدى قادرًا على الاستجابة لمؤثرات ضعيفة، لم تكن تحرك شيء في أعصاب آبائنا”.
ولفت إلى أن الإنسان المعاصر يقابله أيضًا عامل الضغط الثقافي الذي يعشيه الآن، والذي يقوده نحو الحداثة أو ما يسمى في الوسط الثقافي “الحداثة الزائلة”، وهو الانتقال من اليقينيات إلى الظنيات، وإنه يعيش في تفاصيل كثيرة، وحيث تزداد النظم وتزداد التفاصيل تفقده السيطرة، ويتحول كل ما حوله إلى ظنيات وليس يقينيات، ولذلك ظهرت نظرية الحداثة السائلة، وأثرت على النقد العربي.
وحيث أن الضغط الثقافي في المستوى الأدبي تسيطر عليه فكرة تذويب اليقينيات وخلع كل ما هو وأجب ليصبح شيء محتملا، ولدت الحداثة السائلة التي بدورها جعلت الثقافة تميل إلى وجود الفوضى في كل انتظام، وفقدان المحكمات التي نحتكم إليها وفي ذلك جزء من سقوط هيبة النقد، وكلما أوغلنا أكثر في الحضارة غرقنا أكثر في المنتجات والنظم والتفاصيل، وشعرنا بفقد الأنماط والقوالب وانتقلنا من اليقينيات إلى الحتميات في فهم الحياة.
ويتساءل الدكتور “الحريول”: عن عزوف الناس والأدباء تحديدًا عن النقد الأدبي، وعن أزمة النقد الأدبي من الداخل، وانفلات المشهد النقدي، وفوضى القراءات الأدبية، فقال: من الذي يستطيع أن يلزم الأديب اليوم أن يستمع إلى الناقد وهو على علم بأن القراءات النقدية تصل حد التناقض؟
وأوضح الدكتور “الحريول” أن العقل الإنساني كائنا مستهلكًا بامتياز، فالإنسان بطبيعته يقرأ النص بقراءات مختلفة ولا نستطيع الحد من ذلك، وحتى في الفكر التراثي لا يوجد ما يمنع القراءات، لكن السؤال الذي يطرح نفسه، ما لذي يمكن أخذه وتركه من هذه القراءات.
ونفى وجود محكمات يحتكم إليها النقد العربي، وحتى لم نفكر في توظيف النظرية اللغوية التراثية التي لو رجعنا إليها لوجدناها أرحب بكثير من النظريات النقدية المعاصرة، وأغنتنا عن الانفتاح غير المشروط على المناهج الغربية.
وأشار إلى أن النقد الثقافي من حيث الممارسة وليس النظرية وبعيد عن أصل فكرة النقد الثقافي، فأنه من الأمور التي زهدت الأديب في عرض قصائده وأعماله الأدبية على الناقد، ومع أهمية ما يقدم فأن ما يمارس اليوم هو عبارة عن قراءة ثقافية، والقراءة الثقافية لا تشبع قليل حتى الأديب.
وأبان الدكتور “الحريول” بأن مشكلة النقد الثقافي أصبحت قراءة ثقافية بالإمكان ممارستها وهنا تكمن المغالاة، وأن عرض المعطى الثقافي بأنه كل النص ليس صحيحًا، وليس وظيفة الناقد فقط فيما يريد الشاعر أو الأديب قوله، بل وظيفته إبانة كيف قال ذلك الشاعر أو الأديب، ولهذا السبب حينما يعرض الأديب نصه على الناقد يأتيه النقد عبارة عن ملحوظات ثقافية.
وأفاد الدكتور “الحريول” بأن الناقد اليوم أصبح ناشرًا وليس ناقدًا، وإن جزء من الهزال النقدي هو ذهاب الأديب بديوانه أو روايته إلى الناقد والطلب منه الكتابة عنهما، ليصبح بذلك الناقد ناشرًا أو وسيط ناشرًا وليس ناقدًا، وهذا هو السر في رؤية ناقدًا من أساطير النقد لم يفلح في شجاعته الأدبية.
وعلى حد قوله، فإن المسابقات الأدبية كشفت ضعف المشهد النقدي، وأبرزت الفرق بين الأستاذ أو الأكاديمي في النقد وبين الإنسان القادر على ممارسة لياقة النصوص الفنية، فهناك فرق بين من يتداول النقد من جهة الفلسفة وبين من يمتلك لياقة الخوض في النصوص الأدبية ميدانيًا.
وعن النقد الأدبي والأدب الرقمي، قال: الأبحاث حول الأدب الرقمي في تزايد ومن حق الأدب أن يلقى له قبولًا وحضورًا في الأدب الرقمي، لكن هناك مؤشرات، هي:
– الأدب الرقمي سوف يعزز من سلطة القارئ، بل من سلطة القارئ إلى سلطة الجمهور.
– الأدب الرقمي عادة ينشر الأدب على شكل أفقي وليس عميق، وستتأثر بذلك الكتابة والمشهد الثقافي.
– فكرة انتقال سلطة النقد إلى القارئ، فالجماهير هي من تضغط على الإعجاب، وتحدث الرتويت.
وأشار إلى ثقافة الجماهير، بقوله أن الإنسان كائن تصديقي أكثر من نقدي، فالغالبية حينما تعرض عليهم معلومات جديدة عن أمر لا يعرفه، بطبيعته يميل إلى التصديق وليس إلى النقد، وبالتالي حشد الجماهير وسيكولوجية الجماهير ستذهب بنا إلى ما يتداول في النقد الثقافي وفي المشاهد الثقافية أن السلطة ستنتزع من المثقف إلى رأي الجماهير باعتبار أن الوصول إلى هذا عن طريق الأدب الرقمي دائما ما يكون سهلا.
وختم الدكتور “الحريول” حديثه بنصيحة مفادها: أن انتشار ثقافة النقد الجاد في المجتمعات الأدبية من صالح الجميع، وأن المجاملات هي بالضرورة تعني الجمود والبقاء على ما نحن عليه، وأن النقد القليل يعني الأخطاء الكثيرة.