ربما يكمن الفرق بين أن يقرأ أحدنا من كتاب كي يسد نقصا معلوماتيا، وأن يحاول ذلك عبر الاستماع؛ في كون الأول يعتمد في الغالب على العقل بينما يعتمد الثاني على العاطفة والوجدان (نقصد من جانب المتلقي). فالمتحدث مثلا والذي يعتمد على لسانه وذاكرته -يقابله المستمع في اعتماده على أذنيه- غالبا ما يتكئ على ذاكرته وعلى رنة صوته أو نبراته من أجل لإقناع الطرف الآخر بوجهة نظره أو إيصال معلومة له، وقد ينسى جانبا من المعلومات أو أفكارا هامة فيه، بل قد يخطئ في نقل تاريخ أو رقم ما، في مقابل المستمع الذي سيفوته بالتأكيد كثير من التفاصيل أو أنه سوف ينسى بعضها في خضم تلاحق الأفكار حين لا يستطيع إيقافها أو إبطاء سرعة تدفقها. كما أن اعتماده على حاسة السمع قد يقود إلى ضعف التركيز أو ما يسمى بالسرحان والتفكير في أمور أخرى.
إن هذه الملاحظات إلى جانب أمور أخرى (كحفظ المعلومة) هي ما دفعت الإنسان الأول للتحول من الحالة الشفاهية السماعية والتي تعتبر أسهل بكثير، باتجاه الكتابة والتوثيق دفعا لأي لبس محتمل أو خطأ في النقل.
وهكذا ونتيجة للجهد الكتابي فإن البشر استطاعوا أن يراكموا كما هائلا من المعارف على مدار التاريخ منذ بدء التدوين والكتابة. كما استطاعت الكتابة حفظ التراث العلمي من الاندثار ونقله إلى الأجيال التالية. وهكذا فإن القراءة من هذه الأسفار المكتوبة والمطبوعة ساهمت في نشر الوعي الحقيقي واستدامته.
كما تكمن مشكلة نشر الوعي عبر الاستماع في محدوديتها الزمكانية في حال كانت وجها لوجه، أما في حال كونها مسجلة (عبر الوسائل الحديثة) كما هو حاصل حاليا فتعتبر خطوة متقدمة جدا نظرا لإمكانية إعادة الاستماع إليها مرارا وتكرارا، إلى جانب إيجابيات أخرى مثل إمكانية الاستماع إليها في مختلف الظروف حتى أثناء القيام بأمور أخرى كالمشي أو قيادة السيارة أو الأعمال المنزلية.
وتضاف ميزة تعزيزية للقراءة على الوعي وهي انتشارها وتأثيرها الزمكاني في بقع جغرافية واسعة على مدى زماني متسع مع إمكانية أسهل للترجمة ونقلها إلى لغات أخرى. كما يستطيع أي شخص أن يتفحص ما هو مكتوب بسهولة ويقوم بنقده، علاوة على إمكانية كتابة الملاحظات ووضع العلامات والخطوط على ما يعتقده القارئ هاما أو لافتا، ثم العودة إليه بسهولة.
ويشترك الأسلوبان -والذي يسميهما المفكر المصري الدكتور عبدالوهاب المسيري تفكير بالآذان وآخر بالأذهان- في أن كليهما يعملان على تشكيل الملامح الداخلية الفكرية والنفسية للإنسان حتى دون أن يشعر بذلك، ويساهمان معا في اكتشاف الذات ونواحي القصور فيها، كما أنهما يتجاوزان مجرد الوعي إلى المتعة والتنفيس عن ضغوطات الحياة. ولذلك فإنه لا يمكن اعتبار القراءة مجرد ترف أو هواية بل يمكن بواسطتها ملء فراغ العقول وليس الأوقات كما قال أحدهم.
ولأن أي مادة يتم الاطلاع عليها أو الاستماع إليها تؤثر بالضرورة على وعي الإنسان وتشكيل توجهاته وربما مستقبله، فإنه كان لزاما علينا إحسان اختيار هذه المواد المقروءة والمسموعة بشكل جيد، خاصة بعد أن نتجاوز مرحلة لياقة القراءة.
وخلاصة القول إن الوعي (من اطلاع وتحليل وتفكيك وربط) لا يتأتى من وسيلة الاطلاع فحسب (مقروءا أو مسموعا)، بل يضاف إلى ذلك قدرات المستقبِل الذهنية والظروف المحيطة به في كل وقت، حيث المعلومة غالبا ما تكون صماء جامدة يتم تشكيلها وقولبتها حسب هذه القدرات والظروف، بعيدا عن كمها.