غسان بوخمسين يكتب: بوصلة الحياة.. هدفك الواضح هو درع دماغك ضد الخرف

التعليقات: 0
 غسان بوخمسين يكتب: بوصلة الحياة.. هدفك الواضح هو درع دماغك ضد الخرف
https://wahhnews.com/?p=89089
 غسان بوخمسين يكتب: بوصلة الحياة.. هدفك الواضح هو درع دماغك ضد الخرف
الواحة نيوز

في عصرنا السريع الإيقاع، حيث تسيطر الماديات والرغبات اللحظية، ويتراجع الجانب الروحي، قد يبدو البحث عن “معنى” أو “هدف” في الحياة ترفاً فكرياً غير ضروري. لكن تخيل أن هذا الهدف نفسه قد يكون مفتاحاً للحفاظ على ذاكرتك حادة، وتركيزك قوياً، وحتى تأخير شبح الخرف لسنوات طويلة. الأبحاث العلمية الحديثة لا تتحدث عن السعادة فحسب، بل عن درع وقائي بيولوجي حقيقي يبنيه الدماغ عندما يشعر أن له غاية تستحق العيش من أجلها.

هذه النتيجة المدهشة جاءت ضمن دراسة موسعة أجرتها جامعة كاليفورنيا، ونُشرت في المجلة الأميركية للطب النفسي لكبار السن. شملت الدراسة أكثر من 13,700 مشارك على مدى 15 عاماً، لتكشف علاقة وثيقة بين الإحساس بالغاية في الحياة وتباطؤ التدهور المعرفي.

وخلص الباحثون إلى أن الأشخاص الذين يمتلكون شعوراً قوياً بالهدف كانوا أقل عرضة بنسبة 28% للإصابة بضعف الذاكرة، واستمر هذا الأثر الوقائي حتى لدى من لديهم استعداد وراثي للإصابة بالخرف.

تقول البروفيسورة أليسا وينغو، الباحثة الرئيسة في الدراسة، إن الهدف في الحياة “يمنح الدماغ مرونة استثنائية وقدرة على المقاومة تتجاوز العوامل الجينية”. ويُفسَّر هذا الأثر عبر مفهوم “الاحتياطي المعرفي” (Cognitive Reserve)، أي قدرة الدماغ على التكيّف ومواصلة الأداء رغم وجود تلف عصبي.

الاحتياطي المعرفي هو قدرة الدماغ على التكيف والأداء الفعال رغم التلف العصبي أو الشيخوخة، وليس كمية خلايا، بل استراتيجية وظيفية تعتمد على الخبرات والمهارات. يعمل عبر آليتين: التعويض (استخدام مناطق سليمة لتعويض التالفة) والكفاءة العصبية (تنشيط أقل لنفس المهمة). يُبنى بالتعليم العالي، المهن المعقدة، التعلم مدى الحياة، التفاعل الاجتماعي، والنشاط البدني. الأشخاص أصحاب الأهداف الواضحة يميلون إلى أنشطة محفزة للدماغ مثل التعلم المستمر والتفاعل الاجتماعي، وهي أنشطة تعزز الروابط العصبية وتخفض مستويات الكورتيزول، هرمون التوتر المعروف بتأثيره السلبي على الذاكرة.

لماذا نحتاج إلى هدف في حياتنا؟

تتجاوز مزايا الهدف الحماية المعرفية لتشمل جوانب حياتية متعددة. كما تقول المختصة النفسية ستايسي شايفر: “المعنى لا يُكتشف، بل يُبنى خطوة بخطوة أثناء السعي نحو الأهداف. لا يشترط أن تكون عظيمة؛ يكفي أن تكون صادقة”. الهدف يقلل خطر الخرف بنسبة 28%، ويبني احتياطياً يقاوم الشيخوخة. يحول الروتين اليومي إلى رحلة ذات معنى، ويقلل الشعور بالضياع. كل إنجاز صغير يبني صورة إيجابية عن الذات، ويقوي المرونة العصبية. يمنح شعوراً بالسيطرة، ويقلل الإرهاق النفسي. يحول الصعاب إلى فرص تعلم، ويزيد القدرة على التعافي من النكسات.

وجود هدف واضح يحقق عدة مكاسب محورية:

  • وقاية معرفية: يقلل خطر الخرف وضعف الذاكرة بنسبة تصل إلى 28%، ويقوّي الاحتياطي المعرفي للدماغ.
  • وضوح وتوازن نفسي: يمنح الحياة اتجاهاً ومعنى، ويقلل الشعور بالضياع والارتباك، مما ينعكس على القرارات والطاقة الإيجابية.
  • تعزيز الثقة بالنفس: فكل إنجاز صغير يعزز تقدير الذات ويغذي المرونة العصبية والنفسية.
  • تخفيف التوتر: السعي المنتظم نحو الأهداف يمنح شعوراً بالسيطرة والإنجاز، ويقلل من الإرهاق الذهني والعاطفي.
  • عقلية النمو: مواجهة التحديات بروح المثابرة تحوّل الصعوبات إلى فرص للتعلم والتطور.

كيف نرسم أهدافنا بذكاء؟

رحلة وضع الأهداف رحلة شخصية تختلف من إنسان لآخر، لكنها تقوم على أسس ثابتة يمكن للجميع الاستفادة منها:

  1. اعرف نفسك أولاً:
    الوعي الذاتي هو حجر الأساس. تعرّف على قيمك ودوافعك، ودوّن أفكارك ومشاعرك يومياً لتكتشف ما يمنحك السعادة الحقيقية.
  2. قسّم الهدف الكبير إلى خطوات صغيرة:
    وضع مؤشرات قياس واضحة وتقدم ثابت يجعل الإنجاز أكثر متعة واستدامة.
  3. كن مرناً أمام العقبات:
    المثابرة والقدرة على التكيف هما جناحا النجاح الحقيقي.
  4. احتفل بالإنجازات وتعلّم باستمرار:
    الامتنان يعزز الرضا النفسي، بينما التعلم المستمر يثري الرحلة ويجعلها أكثر قيمة.

الهدفاستثمار في صحة الدماغ والحياة

الهدف في الحياة ليس رفاهية فكرية، بل استثمار طويل الأمد في صحة الدماغ والنفس. فالأمراض التنكسية مثل الخرف و”باركنسون” تشكّل كابوساً يهدد حياة كبار السن، لكن وجود غاية تحفّز العقل وتحافظ على نشاطه يمكن أن يكون خط الدفاع الأول.

وليس المطلوب أن تكون الأهداف ضخمة أو معقدة؛ يكفي أن تكون صادقة وتمنحك معنى، سواء في رعاية الأسرة، أو العمل التطوعي، أو ممارسة هواية محببة، أو الالتزام بالشعائر الدينية.

 

لتحافظ على دماغ شاب ومرن، امنح حياتك اتجاهاً واضحاً وغاية حقيقية. الهدف ليس مجرد خطة عمل، بل بوصلة داخلية تذكّرك كل صباح بأن الحياة تستحق أن تُعاش بوعي ومعنى. فحين يكون لحياتك هدف، يكون لدماغك سبب للبقاء يقظاً، ولمستقبلك فرصة أكبر لأن يظل متقداً بالحيوية والتوازن.

في الختام، يتبين لنا أن الحماية المعرفية وتأمين مستقبل العقل من عوامل التدهور لا تعتمد فقط على الغذاء والرياضة، بل تتجاوز ذلك لتلامس جودة الحياة الروحية والهدفية. إن سر مرونة الدماغ يكمن في إبقائه منخرطًا ومسؤولًا عن تحقيق غايات ذات قيمة.

إن وجود هدف سامٍ يدفع الإنسان للعمل والإنتاج هو بمثابة “الحصن المنيع” الذي يحافظ على نشاط أدمغتنا في الكبر

. ولن نجد أبلغ في تلخيص هذه الفكرة من قول الإمام علي بن أبي طالب عليه السلام حين قال:”مَن شَرُفَتْ همَّتُهُ عَظُمَتْ قيمتُهُ.”

إنها دعوة لنا جميعاً لنجعل همتنا في الحياة عالية ونبيلة، سواء كانت تتمثل في طلب علم جديد، أو خدمة مجتمعية، أو حتى في السعي نحو الإتقان الشخصي اليومي. فكلما كبرت همتنا وتحددت غايتنا، عظمَت قيمة وجودنا، وضمنَّا لأنفسنا حياة عقلية سليمة ومثمرة حتى آخر العمر. لنجعل العمل الهادف جزءاً لا يتجزأ من روتيننا اليومي؛ لأنه ليس مجرد واجب ديني أو اجتماعي، بل هو استثمار في الصحة المعرفية وعافية المستقبل.

 

 

التعليقات (٠) اضف تعليق

اضف تعليق

بريدك الالكترونى لن نقوم بأستخدامه.

You may use these HTML tags and attributes:
<a href="" title=""> <abbr title=""> <acronym title=""> <b> <blockquote cite=""> <cite> <code> <del datetime=""> <em> <i> <q cite=""> <s> <strike> <strong>