نقلنا مصطلح “الزمن الجميل” من الإعلام المصري، دون تمحيص أو تدقيق. وعندما نستخدمه، فإننا عادةً نشير إلى الفترة الممتدة بين الخمسينيات والسبعينيات الميلادية. لكن السؤال الحقيقي: هل كان ذلك الزمن فعلاً جميلاً؟ وما المعيار الذي جعله يُسمّى بهذا الاسم؟ وهل كان جماله يتجاوز الجانب الاجتماعي ليطال حياتنا المادية والتقنية؟
إذا نظرنا إلى الواقع المادي والتقني لذلك الزمن، نجد البون شاسعًا بينه وبين حياتنا اليوم. البيوت صغيرة مبنية من الطين، ووسائل الرفاهية معدومة: لا كنبات، لا دورات مياه حديثة، لا ماء جارٍ في البيوت، لا مكيفات، لا أجهزة ذكية، لا واي فاي، لا تلفزيون متطور، لا دوري روشن، ولا سوشيال ميديا. لا مطاعم، لا مولات، لا كوفيهات، لا هنقرستيشن، ولا نينجنا.
النظافة محدودة، لا صابون ولا شامبو، والأمراض منتشرة، ومتوسط عمر الإنسان لا يتجاوز الأربعين عامًا. لا جودة حياة، لا موسم الرياض، ولا بوليفارد، ولا هيئة ترفيه.
المتع محدودة جدًا؛ بعض الأسر تمتلك راديو، وبعضها “بشتختة”، والتلفزيون الأسود والأبيض لم يدخل البيوت إلا في مرحلة متأخرة.
فإذن، عن أي “زمن جميل” يتحدثون؟
ومع ذلك، فإن جمال ذلك الزمن في نظر كثير من كبار السن كان جمالًا اجتماعيًا بحتًا. كانت العلاقات بين الجيران صافية، والنفوس نقية، والحسد والحقد أقل، والتعاون والتكافل طاغيًا. الناس كانوا قريبين من بعضهم، يفرحون معًا للخير، ويتحملون المشقات جنبًا إلى جنب، ويجدون في الآخر سندًا حقيقيًا، لا مجرد وجهٍ يمر مرور الكرام.
والسبب في ذلك واضح: المساواة الاقتصادية.
قبل ستين عامًا، كانت الفروقات بين الناس ضئيلة؛ الجميع يعيش حياة متقاربة. بيتك مبني من الطين، وبيتي كذلك. تعمل في الزراعة، وأنا أعمل في الزراعة. هذه المساواة الخفية صنعت روابط قوية، لحمة اجتماعية حقيقية، قلبًا على قلب، وروحًا على روح.
اليوم، تغيّرت الحياة جذريًا. التقدم التقني والاقتصادي والخدمي خلق فجوات واسعة بين الناس، وتبدلت معه طبيعة العلاقات الاجتماعية. أصبح التباعد النفسي والاجتماعي أكثر وضوحًا، وتلاشت بساطة الحياة التي كانت تشد الناس لبعضهم.
إذا كان الزمان القديم جميلاً، فكان ذلك جمالًا إنسانيًا واجتماعيًا بحتًا، لا ماديًا، ولا تقنيًا، ولا خدميًا.
لذلك، حين نتذكر “الزمن الجميل”، علينا أن ندرك أن جماله لم يكن في البيوت، ولا في الأجهزة، ولا في المظاهر، بل في القلوب، واللحمة الاجتماعية، والقرب الإنساني بين الناس.
ويبقى السؤال مفتوحًا:
عن أي زمن جميل يتحدثون حقًا؟