غسان بوخمسين يكتب: الفقر اللغوي لدى الأطفال.. أزمة علمية في عصر الرقمنة وهيمنة المحتوى الأجنبي ‏

التعليقات: 0
غسان بوخمسين يكتب: الفقر اللغوي لدى الأطفال.. أزمة علمية في عصر الرقمنة وهيمنة المحتوى الأجنبي ‏
https://wahhnews.com/?p=88757
غسان بوخمسين يكتب: الفقر اللغوي لدى الأطفال.. أزمة علمية في عصر الرقمنة وهيمنة المحتوى الأجنبي ‏
الواحة نيوز

تعتبر قضية ‏‎”‎الفقر اللغوي‎” ‎لدى الأطفال أزمة تربوية حقيقية تتطلب التفاتة جادة من المختصين وصناع القرار. فهي ‏ليست مجرد نقص في المفردات، بل هي تحدٍ متعدد الأبعاد يمس صميم قدرة الطفل على التواصل، التعلم، الاندماج ‏الاجتماعي، وحتى تشكيل هويته في هذا العصر الرقمي المتسارع. تؤكد الأبحاث والدراسات العلمية أن هذه ‏الظاهرة، وإن بدت صامتة، إلا أن تداعياتها عميقة على مستقبل مجتمعاتنا.‏

تداعيات الفقر اللغوي: من غياب الكلمة إلى تآكل الهوية

تشير الدراسات الرائدة في علم اللغة التطبيقي، علم النفس اللغوي، وعلم الأعصاب المعرفي إلى أن التعرض ‏اللغوي الكافي والمتنوع في السنوات الأولى من حياة الطفل هو حجر الزاوية لتطوره المعرفي والاجتماعي. عندما ‏يفتقر الطفل إلى هذه البيئة اللغوية الغنية، تظهر آثار الفقر اللغوي بوضوح:‏
‏ ضعف التواصل: يجد الأطفال صعوبة بالغة في التعبير عن أفكارهم ومشاعرهم بوضوح ودقة. يتجلى ذلك في ‏استخدام مفردات محدودة، وبناء جمل بسيطة أو غير مكتملة، مما يعيق قدرتهم على المشاركة الفعالة في ‏الحوارات ويؤثر سلبًا على علاقاتهم الاجتماعية. يشير البروفيسور بول فليتشر ‏‎(Paul Fletcher)‎، أحد أبرز الباحثين ‏في اضطرابات اللغة لدى الأطفال، إلى أن ‏‎”‎نوعية وكمية المدخلات اللغوية التي يتلقاها الطفل في سنواته الأولى ‏هي المؤشر الأقوى على تطوره اللغوي اللاحق‎”.‎
‏ ‏
التحديات الأكاديمية: اللغة هي عماد التعليم. فالأطفال الذين يعانون من فقر لغوي يواجهون صعوبة في فهم ‏النصوص الدراسية المعقدة، واستيعاب المفاهيم المجردة، والتعبير عن إجاباتهم بطلاقة. يؤثر هذا سلبًا على ‏تحصيلهم الأكاديمي، وقد يؤدي إلى تراجع مستوى الاستيعاب والشغف بالتعلم، وربما التسرب المدرسي، خاصة في ‏بيئات الازدواجية اللغوية بين العامية والفصحى. دراسة أجرتها الباحثة غادة الكيلاني (2018) على أطفال عرب ‏أظهرت ارتباطًا وثيقًا بين ضعف المفردات في اللغة العربية الفصحى وتدني الأداء في مواد مثل الرياضيات والعلوم، ‏مما يؤكد أن التحدي اللغوي لا يقتصر على مادة اللغة فحسب.‏
‏ ‏
تأثيرات على النمو العصبي المعرفي: أثبتت أبحاث الدكتورة دانا سوزوكي (Dana Suskind) في جامعة شيكاغو، أن ‏حجم المدخلات اللغوية يؤثر مباشرة على اللدونة العصبية في مناطق الدماغ المسؤولة عن اللغة. الأطفال الذين ‏يتعرضون لكميات أقل من الكلمات أو لمفردات أقل تنوعًا، قد يواجهون تحديات في بناء شبكات عصبية قوية تدعم ‏التفكير النقدي، حل المشكلات، وصياغة الأفكار المعقدة، وهي مهارات أساسية للنمو المعرفي الشامل.‏
‏ ‏
تآكل الانتماء والهوية: اللغة هي الوعاء الذي يحفظ الثقافة والتاريخ والهوية. عندما تضعف صلة الطفل بلغته الأم ‏بتراثها الغني، فإنه قد يفقد القدرة على تذوق الأدب والشعر العربي، أو فهم الحكايات الشعبية والأمثال التي تشكل ‏نسيج هويته. هذا الضعف قد يورث شعوراً بالانفصال عن الجذور الثقافية والتاريخية، مما يؤثر على تشكيل هوية ‏راسخة.‏

البعد الرقمي والتقني:

أصبحت الشاشات جزءًا لا يتجزأ من حياة الأطفال، حيث تلعب الأدوات والمنصات الرقمية ‏دورًا حاسمًا يمكن أن يكون عامل تمكين أو معيقًا للنمو اللغوي، حيث تواجه اللغة العربية تحديًا كبيرًا يتمثل في ‏وفرة المحتوى الأجنبي على المنصات الرقمية ووسائل التواصل الاجتماعي، مقابل ندرة المحتوى العربي عالي ‏الجودة والجذاب الموجه للأطفال. يقضي الأطفال ساعات طويلة في مشاهدة الرسوم المتحركة، الألعاب، ومقاطع ‏الفيديو باللغات الأجنبية، خاصة الإنجليزية.

هذا التعرض المفرط يؤدي إلى إثراء حصيلتهم اللغوية في تلك اللغات ‏على حساب لغتهم الأم. دراسة لجامعة كاليفورنيا (2020) أشارت إلى أن الأطفال في البيئات ثنائية اللغة الذين ‏يتعرضون لكميات أكبر من اللغة الأجنبية عبر الشاشات، قد يظهرون تأخرًا في اكتساب لغتهم الأم إذا لم تتوازن ‏المدخلات اللغوية بشكل كافٍ.

تقوم وسائل التواصل بدور سلبي ومؤثر، فهي تُغرق المحتوى الرقمي الأطفال بلغة ‏مبسطة ومختصرة، تعتمد على العامية المبتذلة، وتغفل القواعد النحوية السليمة والمفردات الغنية. التعرض المستمر ‏لهذا النوع من المحتوى يمكن أن يثبط التطور اللغوي السليم، ويقيد مخزونهم اللغوي.

كما أن التركيز على المحتوى ‏البصري السريع قد يقلل من فرص التعرض للنصوص الطويلة والمعقدة التي تنمي التفكير النقدي وقدرات ‏الاستيعاب.‏

لكن يمكن القول أن هناك جانباً إيجابياً لهذه الوسائل، فهي تحمل إمكانات هائلة لتعزيز اللغة العربية واللهجات. وقد ‏يمكن استغلال التطبيقات التعليمية التفاعلية، الألعاب اللغوية، والمنصات التي تقدم محتوى صوتيًا ومرئيًا غنيًا باللغة ‏الفصحى واللهجات الأصيلة، لتعليم الأطفال بطرق مبتكرة وجذابة.

يمكن للمحتوى الرقمي الموجه بذكاء أن يصبح ‏جسرًا يعزز حب اللغة ويثري مخزونهم اللغوي.‏

تجدر الإشارة هنا لبعض المؤشرات على الفقر اللغوي، منها:‏
‏•‏ قلة التراكيب المعقدة في الكلام أو الكتابة.‏
‏•‏ تكرار مفرط لمجموعة محدودة من المفردات.‏
‏•‏ صعوبة الانتقال بين الأساليب والمقامات.‏
‏•‏ الاعتماد على الإشارات والإيماءات بدلاً من اللغة الصريحة.‏
‏•‏ الفشل في فهم السياق أو النية التواصلية للآخرين.‏

بعد استعراض مشكلة الفقر اللغوي عند الأطفال وآثارها، يمكننا استعراض بعض الحلول المقترحة:‏
‏ ‏
‏ دور الأسرة والمحيط: يجب على الآباء إثراء البيئة اللغوية في المنزل من خلال القراءة اليومية بصوت عالٍ، ‏وتشجيع الحوار الهادف، وسرد القصص، وتعريف الأطفال بمختلف المفردات والتعبيرات، مع تقنين زمن الشاشات ‏وتوجيه المحتوى نحو الجودة. يشدد البروفيسور هارتموت شيرمان ‏‎(Hartmut Scherz) ‎من جامعة برلين على أن ‏‎”‎التفاعل اللفظي الغني بين الوالدين والطفل هو المحرك الأساسي لتنمية اللغة‎”.‎
‏ ‏
‏ دور المؤسسات التعليمية: ينبغي على المدارس إعادة النظر في مناهج تدريس اللغة العربية لتجعلها أكثر جاذبية ‏وتفاعلًا، مع التركيز على المهارات اللغوية الأربع (الاستماع، التحدث، القراءة، الكتابة)، وتشجيع القراءة الحرة. ‏

مسؤولية الإعلام والمحتوى الرقمي: تقع على عاتق صناع المحتوى والإعلام مسؤولية أخلاقية في تقديم محتوى ‏رقمي ومرئي ولغوي سليم ومثرٍ، يساهم في بناء قدرات الأطفال اللغوية لا في إضعافها. يجب دعم المبادرات التي ‏تنتج محتوى عربي رقمي عالي الجودة وجذاب قادر على منافسة المحتوى الأجنبي واستقطاب اهتمام الأطفال.‏

‏ ‏في الختام، ثمة مقولة لنعوم تشومسكي عالم اللسانيات المعروف (اللغة ليست مجرد كلمات. إنها ثقافة وتقليد ‏وتوحيد مجتمع وتاريخ كامل يخلق ما هو المجتمع. كل شيء متجسد في اللغة). وقد استلهم أحدهم من آرائه في ‏اللغة مقولة ( اللغة هي الحمض النووي للثقافة) في إشارة جميلة وعميقة بأن اللغة هي الوعاء والحوض الحامل ‏للثقافة والمعرفة تتوارثها الأجيال .‏

‏ ينبغي على الآباء والمربين والمعلمين استشعار المسؤولية الملقاة عليهم، والعمل على الحد من هذه الظاهرة ‏المؤرقة. إن الاستثمار في ثراء لغة أطفالنا هو استثمار في بناء جيل قادر على التفكير النقدي، والتواصل بفعالية، ‏والاحتفاظ بهويته الثقافية في عالم يزداد تعقيدًا.

فلنعمل معًا، بالاستناد إلى المعرفة العلمية، لبناء حصن لغوي ‏يحمي أجيالنا من تحديات الفقر اللغوي وهيمنة المحتوى الأجنبي في هذا العصر الرقمي المتسارع. ‏

 

التعليقات (٠) اضف تعليق

اضف تعليق

بريدك الالكترونى لن نقوم بأستخدامه.

You may use these HTML tags and attributes:
<a href="" title=""> <abbr title=""> <acronym title=""> <b> <blockquote cite=""> <cite> <code> <del datetime=""> <em> <i> <q cite=""> <s> <strike> <strong>