من وحي قوانين الفيزياء التي تحكم الكون، يبرز مبدأ “أقل مستوى للطاقة” (Principle of Least Energy) كقاعدة أساسية مستمدة من القانون الثانيللديناميكا الحرارية. ينص هذا المبدأ على أن أي نظام فيزيائي، من الإلكترون الدقيقالذي يدور حول نواة الذرة إلى المجرات الهائلة التي تسبح في الفضاء، يميل بطبيعتهإلى الاستقرار في حالته الطاقية الدنيا، أو ما يُعرف بـ “الحالة القاعية” (Ground State). فالإلكترون لا يقفز إلى مدار طاقة أعلى إلا إذا اكتسب طاقة خارجية تُعرف بـ“الإثارة”، وسرعان ما يتخلى عن هذه الطاقة الزائدة ليعود إلى سكينته واستقرارهالأصلي.
هذه النزعة الكونية نحو الاستقرار هي التي تضمن، بحكمة إلهية بالغة،ديمومة الوجود وتوازن الكون، فلولاها لتحول كل شيء إلى حالة من الإثارة اللانهائية،والفوضى العارمة التي تفضي إلى التلاشي والانهيار.
لكن، هل يمكن لهذا القانون الفيزيائي الصارم أن يغادر عالمه المادي ليجد له صدى فيعالم النفس الإنسانية المعقد والمركب؟ هل يمكننا أن نرى في سلوكياتنا ونزعاتناانعكاسًا لهذه الرغبة الكونية في الوصول إلى “أقل مستوى للطاقة”؟ إن التأمل فيالطبيعة البشرية يقودنا إلى استنتاج مثير، وهو أن النفس البشرية، في جوهرها،تخضع لنسخة مجازية من هذا القانون.
تميل النفس بطبيعتها إلى ما يمكن تسميته بـ “التسافل” أو “التثاقل” نحو الحالةالقاعية، وهي حالة السكون، والدعة، والانغماس في الملذات المادية والمعنوية، والاستجابةللغرائز والشهوات. إنها تجد في هذه الحالة راحتها واستقرارها المؤقت، تمامًا كما يجدالإلكترون استقراره في مداره الأدنى. في المقابل، فإن الارتقاء بالنفس نحو الكمالالأخلاقي والروحي يمثل “حالة الإثارة”، وهي حالة تتطلب جهدًا ومجاهدة وصراعًا داخليًا ضد قوى الجذب التي تشد الإنسان إلى الأسفل.
هذا الصراع هو ما يجعلحالة التكامل حالة غير مستقرة بطبيعتها، تحتاج إلى طاقة مستمرة للحفاظ عليها. وقدلخص القرآن الكريم هذا التثاقل نحو الأرض أبلغ تلخيص في قوله تعالى: {يَا أَيُّهَاالَّذِينَ آَمَنُوا مَا لَكُمْ إِذَا قِيلَ لَكُمُ انْفِرُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ اثَّاقَلْتُمْ إِلَى الْأَرْضِ أَرَضِيتُمْ بِالْحَيَاةِالدُّنْيَا مِنَ الْآَخِرَةِ فَمَا مَتَاعُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا فِي الْآَخِرَةِ إِلَّا قَلِيلٌ} (التوبة: 38). فالآية تصورببراعة كيف أن النفس تتثاقل وتميل إلى راحة الدنيا وملذاتها، وتجد صعوبة فيالانطلاق نحو المعالي التي تتطلب بذلًا وتضحية. ولكن رحمة الخالق وعدله اقتضت ألايترك النفس في هذه الحالة الدنيا، فكان إرسال الأنبياء والرسل بمثابة تلك الطاقةالخارجية التي تأخذ بيد الإنسان لترفعه من حالة التسافل إلى حالة التكامل العلوية.
ولا يقتصر تطبيق هذا المبدأ على الجانب الروحي والأخلاقي فحسب، بل يمتد ليشملعقل الإنسان وتفكيره. فكل منا، بوعي أو بغير وعي، يبحث عن أسهل الطرق وأقلهااستهلاكًا للطاقة العقلية عند التعامل مع الأفكار والمعتقدات. فعندما يتبنى الإنسان فكرةما، فإنه يميل إلى الدفاع عنها وتبريرها بأبسط الوسائل الممكنة، حتى لو اضطر إلىإقناع نفسه بالقوة بصحتها، متفاديًا بذلك حالة “الإثارة” العقلية التي تنشأ عن الشكوالنقد والتنافر المعرفي. إنها رغبة دفينة في تحقيق السكون العقلي والراحة النفسية،حتى لو كان ذلك على حساب الحقيقة.
وعلى المستوى الاجتماعي، يتجلى هذا المبدأ بوضوح أكبر. فالمجتمعات، كالأفراد، تميلإلى إلقاء تبعات فشلها وإخفاقاتها على عوامل خارجية، لتريح نفسها من عبء المسؤوليةولوم الذات. ففي مجتمعاتنا العربية، أصبحت “نظرية المؤامرة” هي الجواب الجاهزوالحاضر لتفسير كل أزماتنا، وكأن قوى العالم لا هم لها إلا التآمر علينا.
إنها “الحالةالقاعية” التي يعفي فيها المجتمع نفسه من مسؤولية النهوض والتغيير، ويستكين فيدور الضحية، وهو الدور الأقل تكلفة من الناحية النفسية. إن الاعتراف بالتقصير وتحملالمسؤولية يمثل “حالة إثارة” مجتمعية تتطلب جهدًا جماعيًا هائلًا لمواجهة الذاتوتصحيح المسار.
في نهاية المطاف، يبدو أن قانون “أقل مستوى للطاقة” ليس مجرد قانون فيزيائي، بلهو مرآة تعكس ميلًا أصيلًا في الطبيعة البشرية نحو الراحة والسكون وتجنب المقاومة. وسواء كان هذا الميل في النفس أو العقل أو المجتمع، فإن الوعي به هو الخطوة الأولىنحو تجاوزه.
فالإنسان لم يُخلق ليستكين في حالته القاعية، بل ليستخدم طاقته الروحيةوالعقلية للارتقاء بنفسه نحو “حالات الإثارة” التي تكمن فيها معاني الإنسانية الساميةوالوجود الحق.