في زمنٍ كانت فيه الحقيقة تُحكى في المجالس، وتُحفظ في الصدور، وتُروى كأنها إرثٌ لا يُمسّ، كنا نثق بما يُقال لأن من يقوله كان يُدرك ثقل الكلمة. أما اليوم، فقد تغيّر كل شيء. الحقيقة لم تعد تُروى، بل تُصمّم. لم تعد تُكتشف، بل تُبرمج. في عالمٍ تحكمه الخوارزميات، وتُصاغ فيه المشاعر على يد آلات لا تشعر، بات الكذب أكثر إقناعًا من الواقع، وأكثر انتشارًا من الضوء.
لقد دخلنا عصر “ما بعد الحقيقة”، حيث لم تعد الوقائع هي ما يُشكّل الرأي العام، بل العواطف، والانحيازات، وما يُعاد تكراره حتى يُصبح مألوفًا… وإن كان زائفًا.
في كتابه اللافت “تاريخ الكذب”، لا يقدّم جاك دريدا سردًا تقليديًا للكذب بوصفه نقيضًا للحقيقة، بل يغوص في أعماق اللغة، ليكشف أن الكذب ليس مجرد انحراف، بل بنية ثقافية وفلسفية متجذّرة في خطاب الإنسان. الكذب، كما يراه، ليس فعلًا هامشيًا، بل جزء من نسيج التواصل ذاته، يتسلل إلى الكلمات، يختبئ خلف النوايا، ويُعيد تشكيل الواقع كما نشتهيه، لا كما هو.
لكن ماذا يحدث حين يدخل على هذا المسرح فاعل جديد؟ لا يشعر، ولا يكذب كما يكذب الإنسان، لكنه قادر على إعادة إنتاج الأكاذيب بسرعة الضوء. هنا يظهر الذكاء الاصطناعي، لا كمجرد أداة، بل كلاعب رئيسي في صناعة الحقيقة. الخوارزميات اليوم تكتب الأخبار، تولّد الصور، تُزوّر الأصوات، بل وتُحاكي المشاعر. ومع كل تطور تقني، يتسع الفارق بين ما هو حقيقي، وما هو مُصنّع بإتقان.
مصطلح “ما بعد الحقيقة” يُشير إلى مرحلة تتراجع فيها أهمية الحقائق الموضوعية أمام تأثير العواطف والمعتقدات الشخصية في تشكيل الرأي العام. ورغم ظهوره في التسعينيات، إلا أنه اكتسب زخمه عام 2016 حين اختارته Oxford Dictionaries كلمة العام، في ظل تصاعد الخطاب الشعبوي وانتشار التضليل عبر وسائل التواصل. في هذا العالم، لا يُهم إن كانت المعلومة صحيحة، بل إن كانت قابلة للتصديق، تُرضي التحيّزات، وتُشبع الرغبات. وهنا تكمن خطورة الذكاء الاصطناعي: ليس في قدرته على الكذب، بل في قدرته على تضخيمه، وتوزيعه، وتقديمه في قالب يصعب مقاومته.
كلنا نتذكر ما حدث خلال جائحة كوفيد-19. مقاطع فيديو مزيفة لأطباء يتحدثون بثقة، صور مفبركة لضحايا مزعومين، منشورات تُشكك في اللقاحات وتُروّج لعلاجات غير مثبتة. هذه المعلومات، التي غالبًا ما تُنتجها خوارزميات مدرّبة على استهداف الانفعالات، ساهمت في تراجع الثقة بالعلم، وفي تأخير جهود التطعيم، وفي تعميق الانقسام بين الناس.
التضليل الرقمي ليس جديدًا، لكنه وجد في الذكاء الاصطناعي حليفًا لا يُضاهى. فبفضل تقنيات التعلم العميق، يمكن الآن توليد محتوى زائف يبدو أكثر إقناعًا من الحقيقة ذاتها. فيديو واحد مُفبرك قد يُشعل حربًا، ومقال مزوّر قد يُغيّر نتائج انتخابات، وصورة معدّلة قد تُعيد تشكيل ذاكرة جماعية بأكملها.
آثار التضليل الإعلامي:
/1تشويه الإدراك العام
يُعيد صياغة الحقائق، ويُنتج تصوّرات خاطئة حول قضايا سياسية أو صحية أو اجتماعية.
/ 2إثارة الانقسام المجتمعي
يُغذّي الانقسامات الطائفية والعرقية، ويُحوّل الخلافات إلى صراعات.
/3زعزعة الثقة بالمؤسسات
يُضعف الإيمان بالإعلام، والقانون، والدولة، ويُقلّل من المشاركة المدنية.
/ 4تأثيرات صحية ونفسية
يُروّج لعلاجات وهمية، ويُفاقم القلق والارتباك، خاصة لدى الشباب.
/ إرباك عملية صنع القرار
يُغرق الناس في معلومات متضاربة، ويُضعف قدرتهم على اتخاذ قرارات واعية.
لكن السؤال الحقيقي ليس كيف نُكافح هذه الظاهرة، بل كيف نفهمها. كيف نُعيد تعريف الحقيقة في زمن لم تعد فيه المعلومة نادرة، بل غزيرة، ومُصمّمة خصيصًا لتُخاطب أهواءنا؟ كيف نُعيد بناء الثقة في خطاب عام بات هشًّا، ومُخترقًا، ومُلوّثًا؟
ربما لا نملك السيطرة على تدفق الأكاذيب، ولا على سرعة انتشارها، لكننا نملك شيئًا لا يُشترى ولا يُبرمج: وعينا. في زمنٍ تُصاغ فيه الحقائق حسب الطلب، يصبح التمسك بالحقيقة فعلًا ثوريًا، والبحث عنها رحلة يومية لا تنتهي. فالحقيقة ليست ما يُقال، بل ما نُصّر على معرفته، وما نُدافع عنه، وما نُعيد بناؤه، رغم الضجيج، ورغم الزيف، ورغم كل ما يُراد لنا أن نصدّقه.