غسان بوخمسين يكتب: الكذب في زمن الآلة: حين تصبح الأكاذيب أكثر إقناعًا من الواقع

التعليقات: 0
غسان بوخمسين يكتب: الكذب في زمن الآلة: حين تصبح الأكاذيب أكثر إقناعًا من الواقع
https://wahhnews.com/?p=87980
غسان بوخمسين يكتب: الكذب في زمن الآلة: حين تصبح الأكاذيب أكثر إقناعًا من الواقع
الواحة نيوز

في زمنٍ كانت فيه الحقيقة تُحكى في المجالس، وتُحفظ في الصدور، وتُروى كأنها إرثٌ لا يُمسّ، كنا نثق بما يُقال لأن ‏من يقوله كان يُدرك ثقل الكلمة. أما اليوم، فقد تغيّر كل شيء. الحقيقة لم تعد تُروى، بل تُصمّم. لم تعد تُكتشف، بل ‏تُبرمج. في عالمٍ تحكمه الخوارزميات، وتُصاغ فيه المشاعر على يد آلات لا تشعر، بات الكذب أكثر إقناعًا من الواقع، ‏وأكثر انتشارًا من الضوء.‏

لقد دخلنا عصر “ما بعد الحقيقة‎”‎، حيث لم تعد الوقائع هي ما يُشكّل الرأي العام، بل العواطف، والانحيازات، وما يُعاد ‏تكراره حتى يُصبح مألوفًا‎… ‎وإن كان زائفًا.‏

في كتابه اللافت “تاريخ الكذب”، لا يقدّم جاك دريدا سردًا تقليديًا للكذب بوصفه نقيضًا للحقيقة، بل يغوص في أعماق ‏اللغة، ليكشف أن الكذب ليس مجرد انحراف، بل بنية ثقافية وفلسفية متجذّرة في خطاب الإنسان. الكذب، كما يراه، ‏ليس فعلًا هامشيًا، بل جزء من نسيج التواصل ذاته، يتسلل إلى الكلمات، يختبئ خلف النوايا، ويُعيد تشكيل الواقع ‏كما نشتهيه، لا كما هو.‏

لكن ماذا يحدث حين يدخل على هذا المسرح فاعل جديد؟ لا يشعر، ولا يكذب كما يكذب الإنسان، لكنه قادر على ‏إعادة إنتاج الأكاذيب بسرعة الضوء. هنا يظهر الذكاء الاصطناعي، لا كمجرد أداة، بل كلاعب رئيسي في صناعة ‏الحقيقة. الخوارزميات اليوم تكتب الأخبار، تولّد الصور، تُزوّر الأصوات، بل وتُحاكي المشاعر. ومع كل تطور تقني، ‏يتسع الفارق بين ما هو حقيقي، وما هو مُصنّع بإتقان.‏

مصطلح “ما بعد الحقيقة‎” ‎يُشير إلى مرحلة تتراجع فيها أهمية الحقائق الموضوعية أمام تأثير العواطف والمعتقدات ‏الشخصية في تشكيل الرأي العام. ورغم ظهوره في التسعينيات، إلا أنه اكتسب زخمه عام ‏‎2016 ‎حين اختارته ‏Oxford Dictionaries ‎كلمة العام، في ظل تصاعد الخطاب الشعبوي وانتشار التضليل عبر وسائل التواصل. في هذا ‏العالم، لا يُهم إن كانت المعلومة صحيحة، بل إن كانت قابلة للتصديق، تُرضي التحيّزات، وتُشبع الرغبات. وهنا تكمن ‏خطورة الذكاء الاصطناعي: ليس في قدرته على الكذب، بل في قدرته على تضخيمه، وتوزيعه، وتقديمه في قالب ‏يصعب مقاومته.‏

كلنا نتذكر ما حدث خلال جائحة كوفيد-19. مقاطع فيديو مزيفة لأطباء يتحدثون بثقة، صور مفبركة لضحايا مزعومين، ‏منشورات تُشكك في اللقاحات وتُروّج لعلاجات غير مثبتة. هذه المعلومات، التي غالبًا ما تُنتجها خوارزميات مدرّبة ‏على استهداف الانفعالات، ساهمت في تراجع الثقة بالعلم، وفي تأخير جهود التطعيم، وفي تعميق الانقسام بين ‏الناس.‏

التضليل الرقمي ليس جديدًا، لكنه وجد في الذكاء الاصطناعي حليفًا لا يُضاهى. فبفضل تقنيات التعلم العميق، يمكن ‏الآن توليد محتوى زائف يبدو أكثر إقناعًا من الحقيقة ذاتها. فيديو واحد مُفبرك قد يُشعل حربًا، ومقال مزوّر قد يُغيّر ‏نتائج انتخابات، وصورة معدّلة قد تُعيد تشكيل ذاكرة جماعية بأكملها.‏

آثار التضليل الإعلامي:‏

‎/1‎تشويه الإدراك العام
يُعيد صياغة الحقائق، ويُنتج تصوّرات خاطئة حول قضايا سياسية أو صحية أو اجتماعية.‏

‎/ 2‎إثارة الانقسام المجتمعي
يُغذّي الانقسامات الطائفية والعرقية، ويُحوّل الخلافات إلى صراعات.‏

‎ /3‎زعزعة الثقة بالمؤسسات
يُضعف الإيمان بالإعلام، والقانون، والدولة، ويُقلّل من المشاركة المدنية.‏

‎/ 4‎تأثيرات صحية ونفسية
يُروّج لعلاجات وهمية، ويُفاقم القلق والارتباك، خاصة لدى الشباب.‏

‏/ إرباك عملية صنع القرار
يُغرق الناس في معلومات متضاربة، ويُضعف قدرتهم على اتخاذ قرارات واعية.‏

لكن السؤال الحقيقي ليس كيف نُكافح هذه الظاهرة، بل كيف نفهمها. كيف نُعيد تعريف الحقيقة في زمن لم تعد ‏فيه المعلومة نادرة، بل غزيرة، ومُصمّمة خصيصًا لتُخاطب أهواءنا؟ كيف نُعيد بناء الثقة في خطاب عام بات هشًّا، ‏ومُخترقًا، ومُلوّثًا؟

ربما لا نملك السيطرة على تدفق الأكاذيب، ولا على سرعة انتشارها، لكننا نملك شيئًا لا يُشترى ولا يُبرمج: وعينا. في ‏زمنٍ تُصاغ فيه الحقائق حسب الطلب، يصبح التمسك بالحقيقة فعلًا ثوريًا، والبحث عنها رحلة يومية لا تنتهي. فالحقيقة ‏ليست ما يُقال، بل ما نُصّر على معرفته، وما نُدافع عنه، وما نُعيد بناؤه، رغم الضجيج، ورغم الزيف، ورغم كل ما يُراد ‏لنا أن نصدّقه.‏

 

التعليقات (٠) اضف تعليق

اضف تعليق

بريدك الالكترونى لن نقوم بأستخدامه.

You may use these HTML tags and attributes:
<a href="" title=""> <abbr title=""> <acronym title=""> <b> <blockquote cite=""> <cite> <code> <del datetime=""> <em> <i> <q cite=""> <s> <strike> <strong>