القوانين كالبشر، تهرم وتشيخ، ولابد لها من تجديد حتى تواكب العصر. والمملكة اليوم تمر بمرحلة غير مسبوقة من التحديث، تشمل المؤسسات والوزارات وما يتفرع عنها من أنظمة ولوائح، في انسجام مع رؤية 2030 التي غيّرت شكل الحياة في مختلف القطاعات.
في السنوات الأخيرة، تغيّر الكثير. خذ مثلًا أنظمة المرور: لم يعد الأمر مجرد لائحة عقوبات قديمة، بل منظومة متكاملة تعتمد على التقنية والكاميرات الذكية والربط الإلكتروني، وأُضيفت بنود جديدة تتعلق بالسلامة والسرعة واستخدام الجوال وغيرها. هل اطلعت على هذه القوانين؟ معرفتك بها قد تعفيك من غرامة باهظة أو نقاط مرورية تقيّد حركتك.
وليس المرور وحده. وزارة الموارد البشرية والتنمية الاجتماعية (التي حلت محل الخدمة المدنية) غيّرت كثيرًا من لوائحها، فأصبح الموظف بحاجة إلى متابعة مستمرة لحقوقه وواجباته، من الإجازات إلى التدرج الوظيفي وحتى أنظمة العمل المرن. الدخول على موقع الوزارة وقراءة آخر التحديثات لم يعد ترفًا، بل ضرورة.
وانظر إلى التعليم. أنظمة القبول في الجامعات تغيّرت تمامًا. لم تعد الشهادة الثانوية وحدها كافية، بل هناك اختبارات، ونِسَب مرجّحة، وشروط إضافية تتجدد كل عام. بعض الجامعات فتحت تخصصات حديثة لم تكن موجودة من قبل: الذكاء الاصطناعي، الأمن السيبراني، الطاقة المتجددة… هل ابنك أو ابنتك على اطلاع بهذه المستجدات؟ المتابعة هنا ليست مجرد معلومة، بل قد تحدد مستقبله الجامعي كله.
حتى المعلم نفسه لم يعد بعيدًا عن هذه التغييرات. وزارة التعليم حدثت لوائحها، وأضافت منصات، وأدخلت التقويم المستمر، وربطت كثيرًا من الإجراءات بالتحول الرقمي.
والأمر لا يتوقف هنا. الصحة، التجارة، الاستثمار، البلديات… كل وزارة تقريبًا أعادت ترتيب أوراقها، وصارت أنظمتها في نسخ جديدة متجددة.
لقد تعوّدنا أن نربط كلمة “تحديث” بالأجهزة الذكية: تحديث جوال، تحديث تطبيق. لكن التحديث الأهم هو تحديث عقلك بمعرفة القوانين التي تمس حياتك اليومية. قد تُفاجأ بعقوبة لم تعلم بوجودها، أو قد يضيع عليك حق ثمين لم تطالب به لأنك لم تقرأ آخر التعديلات.
حتى لا تكون كمن يعيش خارج الزمن، اجعل في ذاكرتك دائمًا مساحة لتحديث اللوائح والأنظمة. احذف القوانين القديمة التي انتهى مفعولها، وضع مكانها آخر إصدار.
التحديث هنا ليس مجرد إجراء شكلي، بل هو ضمان لحقوقك وحماية لك من الغرامات والعقوبات.
تمامًا كما تحرص على تحديث هاتفك حتى يعمل بكفاءة… حدّث معلوماتك وأنظمتك حتى تعيش بوعي يليق بزمنك.
لقد أصبت كبد الحقيقة؛ فـ “القوانين كالبشر، تهرم وتشيخ”. وهذا التشبيه يفتح مساراً فلسفياً عميقاً: فالقانون ليس مجرد نصوص جامدة، بل هو روح متجددة. القوانين يجب أن تستمد حياتها من روح العصر ومستجدات الحياة لتظل متصلة بـ الغاية للعدل والنظام. عندما يتباطأ تحديث القانون، ينفصل الجسد عن الروح، ويصبح كقالب فارغ لا يواكب حركة الحياة.
ما يحدث اليوم في المملكة هو أكثر من مجرد “تحديث لوائح”؛ إنه عملية “استبدال نظام تشغيل”. هذا المقال دعوة صارخة لا لتحديث الأجهزة فحسب، بل لتحديث “إصدار العقل البشري” ذاته لمواكبة هذا التحول.
التحليل الفكري والترابط:
المقال يضع يده على صراع جوهري: صراع بين ذاكرة الماضي الرتيبة وسرعة المستقبل المضيئة. وهنا تكمن المقاومة الخفية؛ فـ الذات الإنسانية بطبعها تميل إلى الثبات، لأن “المعروف أسهل التعامل معه”. الأنظمة القديمة، رغم قِدمها، كانت مريحة لرسوخها في الذاكرة الجمعية. أما التغيير، فيفرض جهداً معرفياً مضاعفاً، يدفعه الكثيرون إلى التجاهل.
إن التغيير الذي نشهده في المرور، الموارد البشرية، والتعليم… الخ، ليس مجرد تغييرات قطاعية متفرقة، بل هو دليل على إقامة “ثقافة وعي بالقوانين” الجديدة الشاملة، التي تتطلب يقظة مستمرة من المواطن.
إن تجاهل تحديث الوعي بالقانون يحوّل الشخص إلى كائن يعيش في زمن غير زمنه. يصبح جهلُه سببًا في ضياع حقوقه أو وقوعه تحت طائلة العقوبات التي لم يعلم بوجودها. إنها مأساة صامتة؛ أن تُعاقَب ليس لارتكاب خطأ فادح، بل لـ “عقوبة الجهل بالقانون” الذي تغير وأنت لم تتغير معه.
التحول الذي تقوده الرؤية ليس مجرد تعديل، بل هو دعوة لأن يتحمل كل فرد مسؤولية متابعة الأنظمة التي تحكم حياته. وكما أن الجوال الذي لا يُحدّث يصبح ثغرة أمنية ووظيفية، فإن العقل الذي لا يُحدّث معلوماته يصبح ثغرة في منظومة المجتمع الجديدة، ويعرض حقوقه وحريته للخطر.
الخلاصة هي أن التحديث ليس رفاهية، بل هو “وعي يليق بزمننا”. هو الحارس الصامت لحقوقنا والدرع الواقي من غرامات الجهل.