شهدت الرواية السعودية، خلال العقود الأخيرة، تحولًا جذريًا في بنيتها وجمهورها وخطابها، حين انتقلت من الهامش النخبوي إلى دائرة الضوء الجماهيري، لتصبح ظاهرة أدبية وثقافية واجتماعية لا يمكن إغفال أثرها أو تجاهل تداعياتها. لقد لمعت أسماء، وتصدّرت عناوين، وازدادت إصدارات، حتى باتت الرواية الجماهيرية مرآة صاخبة تعكس ما يختلج في المجتمع من تناقضات وهموم وأحلام مؤجلة.
ولادة الظاهرة وتحولاتها
على الرغم من أن بدايات الرواية السعودية ترجع إلى ثلاثينيات القرن الماضي، إلا أن الذيوع الشعبي الحقيقي لم يبدأ إلا في تسعينياته، عبر ثلاثة أعمال مفصلية أحدثت رجّة في المشهد الأدبي: الرياض نوفمبر 1990م لسعد الدوسري، شقة الحرية لغازي القصيبي، وثلاثية أطياف الأزقة المهجورة لتركي الحمد.
كل عمل من هذه الثلاثة أحدث تحوّلًا فريدًا: فـ الرياض نوفمبر 1990م كسرت حاجز الجرأة في تناول القضايا الحساسة، وشقة الحرية شكّلت نقطة مفصلية في تغيير طبيعة جمهور الرواية، بينما مثّلت أطياف الأزقة المهجورة ذروة الرمز للرواية الجماهيرية بجرأتها ومضامينها.
العوامل المحفزة للانتشار
جاءت هذه النهضة في الرواية الجماهيرية في سياق اجتماعي متقاطع مع تحولات إعلامية وثقافية عميقة، أبرزها: انتشار “الشريط الإسلامي”، وانفتاح المجتمع على “الفضائيات”، ثم الانفجار الكبير الذي أحدثه دخول الإنترنت. لقد وفّرت هذه الوسائط بدائل خطابية وأدوات جديدة لاكتشاف الذات والتعبير عنها، وخلقت مناخًا تراكميًا ساعد في احتضان الرواية الجماهيرية وتوسيع قاعدتها.
من النخبة إلى العامة: الرواية بوصفها حدثًا اجتماعيًا
الرواية الجماهيرية، في طابعها العام، لم تكتف بعرض القصة، بل أصبحت بحد ذاتها “حدثًا”، يثير الجدل، ويشعل الحوار، ويضع المجتمع أمام مرآة تعكس ما يُقال همسًا. لقد انحازت هذه الروايات إلى كشف المسكوت عنه، وإثارة الأسئلة الحادة حول الدين، والسياسة، والجنس، والهوية، وأصبحت في كثير من الأحيان أداة صدامية أكثر منها فنًا أدبيًا رصينًا.
غير أن هذا التحوّل لم يكن دون ثمن؛ إذ تراجعت في كثير من الحالات القيمة الفنية أمام الجاذبية الجماهيرية، فاختلطت السيرة الذاتية بالإبداع، وغابت الحدود بين أدب الرواية وتوثيق المذكرات، وأصبح الإثارة مقياسًا للجودة.
إسهامات الرواية الجماهيرية
رغم ما شابها من انتقادات، فإن الرواية الجماهيرية ساهمت في إعادة تشكيل علاقة المجتمع بالكتاب، ورفعت من معدلات القراءة، وأعادت الحياة للصحافة الثقافية، ووسعت هامش حرية التعبير. كما أنها أدّت دورًا غير مباشر في التمهيد لكتابات أكثر جرأة وعمقًا على المستوى الفكري والاجتماعي، وسجلت تحولات المجتمع السعودي في لحظة زمنية شديدة الخصوصية.
ختاماً
لقد أعادت الرواية الجماهيرية تشكيل المشهد الأدبي في المملكة العربية السعودية، وتحوّلت من عمل سردي إلى ظاهرة ثقافية. وبين مؤيد يرى فيها فتحًا جديدًا، ومنتقد يرى فيها تهديدًا للذائقة الأدبية، يبقى المؤكد أن هذه الروايات استطاعت أن تقول ما عجزت النخب عن قوله، وأن تخلق جمهورًا جديدًا يتفاعل، ويقرأ، وينتقد.
إنها مرحلة سردية حافلة بالضجيج، لكنها في ذاتها تشكل خطوة في طريق النضج الثقافي العام، تستحق الدراسة والتأمل، لا التجاهل أو التبخيس.
د/ عرفات المرزوق ترى مش. من القارة
يمكن يمكن من القطيف او سيهات