تمر حياة الإنسان بمراحل متعددة، وكلُ مرحلة لها طبيعتها ووظيفتها في تكامل شخصيته ونضجها ،فعلم نفس النمو هو مجال دراسة التغيرات الجسدية والعقلية والمعرفية والاجتماعية التي تطرأ على الإنسان من خلال مراحل حياته المختلفة ، والتي تتضمن مرحلة الولادة ثم الطفولة المبكرة ،فالطفولة المتوسطة فمرحلة البلوغ والمراهقة ثم الفتوة والشباب فمنتصف العمر والرُشد ،وأخيرا الشيخوخة.
وهذا التقسيم السابق مُحوره فهم طبيعة النفس الإنسانية في كلِ مرحلة ،وكيف تنسجم وتتعامل مع ما حولها بناءً على المرحلة التي تنتقل من طور إلى آخر في حالة من البناء النفسي والهندسي والذي يُؤسس فيه السابق لللاحق ويعتمد عليه فيما بعده ،فكل مرحلة تتآزر مع ما قبلها وترتبط ارتباطا وثيقا مع ما بعدها في سلسلة نمو الإنسان وتعايشه مع كل ما حوله ،وبناء على تلك التقسيمات في علم نفس النمو ارتبطت كل مرحلة بنوع من التعليم والتأسيس ؛لتهذيب شخصية الفرد وصقلها ومواكبتها للحياة.
ومن أبرز المراحل في حياة الإنسان هي مرحلة ما بعد نهاية خدمة العمل ،وتأتي بعد ثلاثة عقود وأكثر لتنتهي إلى مرحلة مفتوحة الآفاق وغير مُؤطرة إلى حَدٍ ما ،والغالب عليها والشائع أنها محطة الاسترخاء بعد خدمة العمل وعدم الالتزام ،وأن التوصيف النفسي لهذه المرحلة هي مصطلح التقاعد بعد نهاية خدمة العمل ،وأصبحت هذه المحطة من حياة الإنسان محطة نهاية وتوقف وانتظار الختام.
ولكننا إذا أمعنا النظر في مفهوم وحقيقة هذه المرحلة على أنها محطة التَّخرج الكبرى من مجموعة المراحل المختلفة نحو عالم فريد من الخيارات والإمكانيات ؛للدخول في أفضل الفرص الموجودة في مُحيط الفرد نحو هدف استغلالها والاستثمار فيها بما يُناسب الإمكانيات والتوازن بين المصلحة العامة والخاصة ،وبما يُحقق الرضا عن الذات ويرفع من المَكانة والتقدير والاحترام ،ويُعزز الدافعية ويُقوي المناعة النفسية ،ويبعث الأمل والطاقة الإيجابية في إدارة اليوم الآخر للتَّخرج بعد نهاية خدمة العمل.
فمادة خَرَجَ التي اشتق منها التَّخرج للدلالة على إتمام التَّعلم والخبرة بعد مرحلة طويلة من المعاناة والكَبَد وبَذْل الجهد والتضحية ،هي مادة واسعة المعاني والآفاق ،وقد ورد اشتقاقها في التَّعبير القرآني لما يقرب من المائة وإحدى وثمانين مرة ،وفي مواد ومعاني ومقاصد ودلالات متعددة ،وكلها تدور حول الحركة والانتقال ﴿ وَقُل رَّبِّ أَدْخِلْنِي مُدْخَلَ صِدْقٍ وَأَخْرِجْنِي مُخْرَجَ صِدْقٍ وَاجْعَل لِّي مِن لَّدُنكَ سُلْطَانًا نَّصِيرًا﴾الإسراء80.
فالخروج من أي مهنة أو وظيفة هو تخرج منها وفتح آفاق في عالم أوسع ،وهذا التَّخرج لا يحتمل التَّأخير والتَّسويف والانتظار في تحديد بُوصلة الاتجاه ،فالوقت في هذه المرحلة الماسية من عُمْر الإنسان كُله رِبْح ومكاسب ،ولا خوف فيها من ظروف الحياة ولا من متغيراتها ولا من المستقبل وما يحمله من مجهول ،وزمنه وامتداه وإدارته بيد الإنسان في إطالته أو تقصيره ،فإما أن يكون وقتا طويلا يُرهق النَّفس ويتعبها ويثقل كاهلها نحو طريق الموت البطيء ،أو وقتا مُمتعا يُحيي النَّفس ويُعالج أمراضها ويُعطيها الأمل الذي لا حد له وكأنه خَالد مُخلد يعيش الحياة بجودة مَليئة بالحب والعطاء والشكر والامتنان ،فنهاية خدمة الإنسان من أي عمل هي الاحتفاء بالتَّخرج نحو مَيادين الحياة التي لا تعرف مفهوم الموت القاعد والجلوس على دكة الانتظار.
التعليق
سلمت سيدي أبا محمد . . . مقالٌ أكثر من رائع !! والأروع فيه التفاتتك الجميلة حول الفرق بين اللفظتين : تقاعدٌ أم تخرج !! وقد صدقت في تشخيصك وشتان بين اللفظتين . فالتخرح بداية جميلة لحياةٍ وعطاءٍ أفضل !!! أما التقاعد فهو موتٌ بطئٌ كما تفضلت ! شكرا لجمال بوحك ، وسمو يراعك !
أخوك / إبراهيم حسن الحسين . أبوحسن
( الاحتفاء بالتَّخرج لا بالتقاعد) عنوان جميل و محتوى أجمل، كل التوفيق لك سيدنا ابومحمد ولجميع من خدم هذا الوطن المعطاء ، ونسأله تعالى الطعاء المستمر لكل من استطاع ذالك لكي يستمر نبض الحياة.🌹
أخي العزيز بومحمد،
تحية طيبة وبعد،،
أشكرك على طرحك الجميل والقيّم حول موضوع التقاعد، والذي يُعد من المواضيع التي تمس شريحة كبيرة من المجتمع وتستحق الكثير من الاهتمام والنقاش.
وإن كنت قد أبدعت في تناول الجوانب المهنية والاقتصادية للتقاعد، إلا أنني وددت أن أضيف نقطة مهمة، ربما غابت عن الطرح، وهي الجانب الاجتماعي والنفسي للمتقاعد، والذي يُعد حجر الزاوية في جودة حياة الإنسان بعد تقاعده.
فمع الأسف، يواجه كثير من المتقاعدين اليوم فراغاً اجتماعياً وروتيناً يومياً قاتلاً نتيجة قلة الأنشطة والبرامج التي تراعي ميولهم واحتياجاتهم في هذه المرحلة الحساسة من العمر. ويجد بعضهم نفسه يمارس أعمالاً لا تتناسب لا مع عمره، ولا مع خبراته، ولا حتى مع مكانته الاجتماعية، فقط بحثاً عن الانشغال أو مصدر دخل إضافي.
ومن هنا تأتي أهمية تبني برامج نوعية للمتقاعدين، تجمع بين الترفيه، والتطوع، والمشاركة المجتمعية، والاستفادة من خبراتهم الطويلة في تطوير الأجيال القادمة، بدل أن نتركهم فريسة للوحدة أو النظرة المجتمعية القاصرة.
أكرر شكري لك، وبارك الله في قلمك وجهدك.
أخوك المحب توفيق العمر بوحسين
مقال جميل أبا محمد، وأتمنى لك تقاعداً سعيداً وعمراً مديداً. 🌹🌹
في هذا المقال العميق، يعيد الأستاذ بكر العبدالمحسن صياغة مفهوم التقاعد بأسلوب فكري وإنساني جديد، حيث ينتقل بنا من النظرة التقليدية التي تعتبر التقاعد نهاية الخدمة وبداية الركود والانزواء، إلى تصور أكثر إشراقًا وواقعية، يُعطي هذه المرحلة معناها الحقيقي باعتبارها “مرحلة التخرّج الكبرى”.
إنه يضع أمامنا تصورًا متكاملًا لرحلة الإنسان منذ ولادته، مرورًا بمراحل النمو والتطور الجسدي والنفسي والاجتماعي، حتى يصل إلى مرحلة ما بعد العمل، التي لا يجب أن تُرى كمرحلة توقف، بل كامتداد ناضج لحياة مليئة بالتجارب والخبرات. وهنا تصبح نهاية الخدمة بمثابة تخرّج من مدرسة الحياة العملية إلى فضاء أرحب من الخيارات التي تتيح للإنسان ممارسة دوره الاجتماعي والفكري بصورة أكثر تحررًا ووعيًا.
ما يلفت النظر هو ربط الكاتب بين المفهوم النفسي للنمو وبين المعاني اللغوية والروحية لكلمة “خرج” كما وردت في القرآن الكريم، ليعزز فكرته بأن هذه المرحلة لا تقل شأنًا عن أي محطة سابقة، بل قد تكون الأجمل لأنها تجمع بين الحكمة، والخبرة، والحرية، والقدرة على التوجيه والعطاء دون قيود.
فالتقاعد -كما يصوّره الكاتب- ليس نهاية الطريق، بل بداية جديدة، تحتاج إلى وعي مختلف، وإرادة قوية لاستثمار هذه المرحلة في بناء الذات وخدمة المجتمع، وتحقيق التوازن بين المصلحة الشخصية والعامة. هي مرحلة نضج يُحتفى بها، لا يُرثى لها.
تعليق ملهم يُدعونا لمراجعة مفاهيمنا عن الزمن، والعمل، والعطاء، ويمنح هذه المرحلة من العمر مكانتها التي تستحق
عبرت عن مشوار الإنسان في هذا الحياة إلى أن يصل لمرحلة انتهاء خدمة العمل و ماتعرف لدينا بالتقاعد،، لكن أشيد بنظرتك الإيجابية لهذه المرحلة التي أسميتها ( بالتخرج)،
وهي نقلة نوعية في حياة الإنسان..!
لا غرابة أن أقرأ لك في هذا المضمار، فقد عهدناك تطوف محطات وتقلبات الحياة واحداثها وتثريها من عدة جهات..
اخي وصديق طفولتي و رفيق دربي. اعطيت وقدمت ووتفانيت وبذلت وسهرت وعلمت وتعاونت. وحان الوقت لتحط اعباءك على جسر الراحة ومرافئ الهدوء. فيحق لي ان اقاسمك الفرح و اكللك بإكليل الفخر، داعياً المولى ان يبارك خطاك…
عبدالعظيم الطوال ( بو احمد )
ماشاءالله رب أرحم العباد في البلاد يا ارحم الراحمين 🥰💫🥰
رؤية ايجابية رائعة
اقتراح وجود دار رعاية للمتقاعدين بحيث يكون جزء من برامج دار الرعاية تفهيم المتقاعد انه مش خبير في الحياة ولا ختم تجارب الحياة عشان لا يصج راسنا ب انا سويت وانا فعلت
بالنسبة للقصيدة الشاعرية للاخ فوق، استمر وفالك البيرق
*(الـتـقــاعــــــد)*
شعر : محمد الجلواح
الأحساء- القارة
أبيات من قصيد ة طريفة كـَـتـَـبـْـتـُـها بعد التحاقي ببرنامج (التقاعد المبكر) الذي قـَـدّمـَـتـْـهُ شركة الاتصالات السعودية لمنسوبيها، وألقيتها في حفل لهذه المناسبة..
*************************
*قالت : (تقاعدتَ) ، قـلتُ : عن(مَلَلي)*
*قالت : تَباعـدتَ، قلت : عن (عمـَلي)*
*قالت : تعـلّمت ، قلت : من خطـأي*
*وربّيَ اللهُ غـــافـــرُ الـزلـل*
*قالت : تعـوّذت ، قلت : من حسـدٍ*
*يأتي على الفـورِ، أو على مـَهـل*
*قالت : تجاهلت ، قلت : مُـدّعـيـاً*
*مَوَدّتي ، والصـحـيحُ . يَحْفِرُ لي !*
*قالت : فماذا تركتَ ؟ قـلت لها :*
*تركت شِـعري يُـضْيءُ كالشُـعَــلِ !*
*سعـيتُ للخـيرِ قَدْرَ مـقـدرتي*
*صَعَدتُ للـعـون في ذ َرى الـجـبـل*
*قالت : فماذا شعـرتَ ؟ ، قلتُ لَهَا :*
*(تَقَاعُدِي) : طَعْـمُـهُ كما العَسَل!!*
*أحـس أني أطـيـر مـرتـفعـا*
*وجالـسـا كالعــقاب في زُحـَل !!*
*لا (ركضة) (للـتـوقيع) تزعـجني*
*ولا (ضـغوط) تـنهال كالـعِلـل*
*و(ساعـتي) لا (تَـرنّ) في قـلقٍ*
*ولـذتي في الـمـنام تهنـأُ لي*
*ولا صُـراخ ٌ يشُـبّ مـن عـمل*
*كانَ عـظـيـما أو كان كالوشـَـل* 1
*أصارعُ الوقـتَ نحـو مَـنْفَـعةٍ*
*وأسهـرُ اللـيـل في رُبـى الجُـمَـل*
*وأشكـرُ اللهَ في الرخاء ، وفي*
*الشدة ، أوفي العراء ِ و النـُّـزُل*
*وموطني في الغـياب أحفـظـهُ*
*فـلا مـثـيـلاً لـه مـن الـدّول*
*قالت : فماذا تـريد ؟ ، قلتُ لـها :*
*ستـراً، وعـفـوا .. يكـونُ في عملي*
ــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1- الوَشـَـل : القليل أو الضعيف
احسنت بومحمد لقد عبرت واوجزت عن المحطات التي يمر بها الموظف واسوأ مرحلة الاخيرة حيث تنهش جسمه الامراض بمخالبها القاسية والالام التي تعتصر جسمه حيث تنقله إلى الموت حيث يصبح الموت ملاذ آمن من الالام
اخي وصديق طفولتي و رفيق دربي. اعطيت وقدمت ووتفانيت وبذلت وسهرت وعلمت وتعاونت. وحان الوقت لتحط اعباءك على جسر الراحة ومرافئ الهدوء. فيحق لي ان اقاسمك الفرح واكللك بإكليل الفخر، داعياً المولى ان يبارك خطاك…
التعليق