ظاهرة الشتم والسَّب هي إحدى التصرفات التي يقوم بها الأفراد اتجاه بعضهم البعض نتيجة الاستخدام السيء للغة وقلة الوعي بالتعبير اللائق والمحترم ،ونتيجة التوتر والضغوط النفسية والاجتماعية ،وتأثر الأفراد بالنماذج السيئة في المجتمع ،وحِدة الصراعات والخلافات بين الأفراد والجماعات ،والتأثير الإعلامي والتكنولوجي في التعبير عن الآراء في زيادة حِدة اللغة وتجاوز الحدود.
وبصورةٍ علمية فإنّ كل لغة في كافة الثقافات العالمية تمتلك شتائمها الخاصة والفريدة من نوعها ،فالكثير من الناس يعتقدون أن الشتم ردٌّ فطري على الأشياء المُؤلمة والمُحبطة والمُزعجة.
واللافت للنظر أن الشتم والازدراء بالحيوانات اتجاه الآخر شائع في مجتمعاتنا بنعت “يا بقرة ويا حمار ويا كلب” وأنها تُمثل شتائم يتم تصويبها ورميها على الآخر للنيل منه مما وقع في تجاوزه ؛لتفريغ الشحنات السلبية ،فالشتائم تُعتبر جرعة منشطة لتهدئة الحالة النفسيّة للإنسان إذ تمنحه القوّة والراحة وقدرة أكبر على تحمّل الألم.
والعلاقة بين الحيوان والإنسان لها جُذور عميقة وقديمة ،فالإنسان البدائي الذي توقف عن الجمع والالتقاط ليبدأ حقبة جديدة بتسخير الحيوانات لمنافعه الشخصية ،فالكلب للحراسة والحمار للحمل والبقرة لغذائه وحرث الأرض وغيرها ،ولعل تلك العلاقة هي ما دفعته لتقديس بعضها مع نشوء الديانات القديمة ،وحتى الديانات السَّماوية لم تخل نصوصها من قصص الحيوانات ورمزيتها في توصيل المعاني والسياق المراد بيانه.
وأما الأدب فقد اتخذ من الحيوانات أبطالاً وشخوصًا وسرد على ألسنتهم العديد من الحكايات الأدبية البديعة والمسلية ،فمن خلالها تمكن القاص من التعبير عن المتاح وغير المتاح في الوسط الإعلامي والاجتماعي والثقافي.
فالكلب هو أول حيوان استأنسه الإنسان وارتبط كل منهما بالآخر وتولدت بينهما صداقة أخذت تنمو خلال العصور لما يتمتع به الكلب من صفات الوفاء والإخلاص للإنسان وقدرته الكبيرة في الصبر وتحمل المشاق والشجاعة ،كما احتل الحمار مكاناً (لا مكانة) لم يحتله أي حيوان آخر في الحضارات الزراعية حيث استخدم في حمل البضائع والأشخاص وجرَّ العربات ونقل الحركة في الطواحين وصولاً إلى الإمدادات العسكرية.
ورغم أن الحمار يُعرف بأنه رمز لمحدودية القدرات العقلية ،إلا أنه تحول منذ عقود إلى أيقونة سياسية ورمزاً انتخابياً مع الحزب الديمقراطي الأميركي عام 1828 عندما اختار المرشح الديمقراطي لخوض سباق الرئاسة أندرو جاكسون شعار “لنترك الشعب يحكم” واستخدم صورة حمار قوي الإرادة على ملصقات حملته الانتخابية وأصبح الحمار منذ ذلك الوقت رمز الديمقراطيين المدلل.
حيث يقومون بتنظيم مسابقات لرسم أفضل بورتريه له وأفضل الشعارات السياسية، التي يمكن أن ترافق صورته ،هذا بالإضافة إلى القمصان والقبعات والنظارات الشمسية وعلاقات المفاتيح وأقداح القهوة التي يطبع عليها رسم الحمار الديمقراطي والتي تُباع خلال المؤتمرات الانتخابية للحزب.
وعبادة البقر هي اعتقاد الهندوس بأن الأبقار حيوانات مُقدسة ويجب ألا تتعرض للأذى أبدًا ففي التقاليد الهندوسية تتمتع البقرة بمكانة مُقدسة تتجاوز بكثير شكلها المادي ويُنظر إليها على أنها تجسيد للإله ،ويتم تبجيلها كرمز للنقاء والخصوبة والوفرة.
تُرى بعد كل ما سبق أليس مثيرا للجدل أن تُوظف مجتمعاتنا نُعوتا لفظية في قاموس شتائمها لحيوانات لها دلالة رمزية إيجابية ومفيدة ،ومحتواها وفائدتها للإنسان في غاية الأهمية ،والعائد منها خير وذو قيمة عالية ،والسؤال المحير متى تتآزر اللغة في رمزيتها مع الوعي في الدِّلالة لإعادة تصويب بُوصلة النُعوت بشكل يُلائم تفريغ الشحنات السلبية لا يناقضها ﴿ أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّا خَلَقْنَا لَهُم مِّمَّا عَمِلَتْ أَيْدِينَا أَنْعَامًا فَهُمْ لَهَا مَالِكُونَ (71) وَذَلَّلْنَاهَا لَهُمْ فَمِنْهَا رَكُوبُهُمْ وَمِنْهَا يَأْكُلُونَ (72) وَلَهُمْ فِيهَا مَنَافِعُ وَمَشَارِبُ ۖ أَفَلَا يَشْكُرُونَ (73)﴾ يس
شكراً لك سيد على المقال الجميل الغني بالأبعاد الثقافية من زوايا مختلفة.
السب والشتائم سواء باستعارة الحيوانات أو مفردات اللغة الثرية بدلالات تعبيراتها المختلفة سواء في التعبير عن الجمال أو القبح أو الامتنان أو الامتعاظ أو غيرها من حمولات اللغة ودلالتها، هو في واقعه كم أظن – أي السباب والشتائم – تعبير عن وعي ونفسية المتلفظين بها وهو أيضاً كما تفضلت به في المقدمة ناتج تأثيرات ثقافية وتربوية عميقة في الأسرة والمجتمع والتقنيات والوسائط وغيرها من نواتج امتزاج الثقافات وتداخلها العميق.
الواقع المرير هو في انتشار ظاهرة السب والشتم عند الأطفال واليافعين والمراهقين في مجتمعاتنا “المحافظة والمتدينة” بشكل مزعج، قد لا نشعر بعمق المشكلة إذا كنا بعيدين عن هذه المجموعات.
هناك خلل ثقافي وتربوي في القيم الأخلاقية بحاجة لجهود كبيرة لمعالجتها …. الحديث يطول هنا، لكن أكتفي بهذه المداخلة.
شكراً كثيراً أبا محمد على المقال المثير للشجون.
محمدحسن الحداد
التعليق
السيد العزيز أبا محمد
شكرا لك لاختيارك هذا الموضوع وشكرا للإرسال الكريم.
وقد حفزني الموضوع للمشاركة بهذه الإضافة راجيا ان تنال قبولك.
—–
وإجابة على نساؤلك حول دور اللغة.
أرى بأن اللغة لاتمنع من استعمال التشبيه والاستعارة ولا تنتصر للإنسان ضد الحيوان / كما لاتدافع عن الحيوان في مقابل الإنسان.
وإنما اللغة تعيب على المتكلم حين يتخبط في اطلاق الأوصاف والتشبيهات بطريقة اعتباطية دون مراعاة التناسب بين المشبه والمشبه به.
فإذا تحقق التناسب في التشبيه فإن اللغة لا تمنع من اطلاقه بل قد تستحسنه و تعطيه وصفا بليغا .
وقد يغيب التناسب كليا فيقال للمتكلم لقد أخطات في التشبيه لأن هذه الصفة ليست موجودة في هذا الحيوان أصلا.
فإن كانت ثمة مشكلة فهي ليست في اللغة _ اي ليست في التشبيه _ بل في ( التشبه) اي في تشبه الإنسان بغيره من المخلوقات.
ولهذا تاخذ هذه الظاهرة بعدا ( نفسيا اجتماعيا ) تكشفه اللغة.
وذلك حين يخرج الناس من دائرة الكرامة التي خصهم الله بها الى دائرة ليست لهم بل هي لغيرهم من الحيوانات.
الحيوان لايعيبه أنه لايفهم او لا يفرأ او لا يستأذن.. لانه منسجم مع طبيعته التي خلق عليها.
فحين يشبه الانسان بالحمار – بسبب بلادته – فليس في ذلك مسبة للحمار لأن الحمار لم يخرج من حدود خلقته وطبيعته، فهو غير مدان أبدا في هذه الاستعمالات.
بل المسبة والإدانة هي للإنسان الذي خرج عن طبيعته الى طبيعة غيره من المخلوقات.
وهنا نفهم بشكل صحيح استعمال القران لمثل هذه التشبيهات.
فليس في القران احتقار للحيوانات أبدا بل إدانة للإنسان، الذي أعطي إمكانات هائلة في خلقته ثم يتصرف بطريقة مخلوق آخر لايمتلك هذه الخصائص.
إن الإدانة تلاحق كل مخلوق ينقلب على طبيعته فقد يدان الرجل حين يتشبه بالمرأة والعكس أيضا فقد تدان المرأة حين تتشبه بالرجل .
وأكثر من هذا فقد يدان الرجال الأصحاء بالعمى والصمم فيقال عنهم ( صم بكم عمي)..
وليس الغرض من ذلك إدانة الأعمى ولا الأبكم الطبيعي بل إدانة السليم حين يعطل قدراته التي أعطيت له.
——
شكرا لك سيدي العزيز فقد حفزتني للمشاركة في هذا الموضوع الجميل.
زادك الله تألقا ونورا .🌸
سلام العلي
اخ بو حسين ذي مغالة مب رد يا بعد شبديا اختصر وقليل الكلام
أحسنت سيدي أبا محمد . . . التفاتةٌ جميلةٌ ورائعة . شكرا ليراعك الأروع . . . ولكن في تصوري أن الإنسان لجأ للشتاىم بالحيوان ليقينه أن الإنسان مكرم بالعقل والحيوان لا عقل له فحتى يُفرِّغ شحناته النفسية يرمي تلك الشتائم على الآخر لتقليله وتنقيصه ووصفه بالأقل لا لأن الحيوان ليس له فوائد أخرى وإن كان ذلك صحيحاً ولكن في تصور الشاتم أن الحيوانَ لا عقلَ له . وهو في خدمة الانسان .
مقال غني ومثير للتأمل، يسلّط الضوء على واحدة من الظواهر الاجتماعية المؤلمة التي تُختزل في كلمات، لكنها تعكس تراجعًا أخلاقيًا وثقافيًا خطيرًا. لقد نجح الكاتب في الربط بين انحراف اللغة في واقعنا المعاصر وبين الجذور التاريخية والثقافية لرمزية الحيوان، مسلطًا الضوء على المفارقة بين استخدامنا لها كشتائم، وبين قيمتها الرمزية والعملية التي طالما كانت ذات أثر إيجابي في حياة الإنسان.
ولعل أجمل ما في المقال أنه لا يكتفي بوصف الظاهرة، بل يفتح نافذة على بعد أعمق: لماذا نعتمد في تنفيس غضبنا على الإسقاط اللفظي السلبي على كائنات ارتبطت بالإنسان بعلاقة نفع وصداقة ووفاء؟ ولماذا لا نرتقي بأسلوب التعبير ليكون متنفسًا واعيًا لا جرحًا لفظيًا؟
الدعوة في ختام المقال لإعادة تصويب بوصلة اللغة وربطها بالوعي، هي دعوة في غاية الرقي. فهي تذكير بأن الكلمات ليست مجرد أصوات، بل هي مرايا لأخلاقنا ومؤشر لدرجة وعينا. فكما قال الإمام علي عليه السلام: “المرء مخبوء تحت لسانه.”
إنه مقال يستحق التقدير، لأنه لا يكتفي بنقد الواقع، بل يُحفّز على الإصلاح، ويعيد الاعتبار لما شوهته العادة والسلوك.
التعليق
مقال جميل يلفت النظر ويوقظ الإحساس لمسألة وجدانية وأخلاقية. بوركت أبا محمد
شكراً لك سيد على المقال الجميل الغني بالأبعاد الثقافية من زوايا مختلفة.
السب والشتائم سواء باستعارة الحيوانات أو مفردات اللغة الثرية بدلالات تعبيراتها المختلفة سواء في التعبير عن الجمال أو القبح أو الامتنان أو الامتعاظ أو غيرها من حمولات اللغة ودلالتها، هو في واقعه كم أظن – أي السباب والشتائم – تعبير عن وعي ونفسية المتلفظين بها وهو أيضاً كما تفضلت به في المقدمة ناتج تأثيرات ثقافية وتربوية عميقة في الأسرة والمجتمع والتقنيات والوسائط وغيرها من نواتج امتزاج الثقافات وتداخلها العميق.
الواقع المرير هو في انتشار ظاهرة السب والشتم عند الأطفال واليافعين والمراهقين في مجتمعاتنا “المحافظة والمتدينة” بشكل مزعج، قد لا نشعر بعمق المشكلة إذا كنا بعيدين عن هذه المجموعات.
هناك خلل ثقافي وتربوي في القيم الأخلاقية بحاجة لجهود كبيرة لمعالجتها …. الحديث يطول هنا، لكن أكتفي بهذه المداخلة.
شكراً كثيراً أبا محمد على المقال المثير للشجون.
محمدحسن الحداد
اختلف معك الشتم ليست بظاهرة، الناس من مئات السنون وهي بتتشتم فهذا يدل ان الشتم اصبح من الحياة وليست ظاهرة حديثة توها تنتشر