في ظل التحديات الاقتصادية العالمية والضغوط المتزايدة على الأنظمة الصحية والبيئية، تتزايد أهمية الاقتصاد الصحي ومحاسبة البيئة كأدوات استراتيجية لتحقيق التنمية المستدامة وضمان بيئة صحية وآمنة للمجتمع. هذا التوجه لم يعد خيارًا بل أصبح مسارًا استراتيجيًا تتبناه الدول الرائدة لتحقيق التوازن بين التنمية الاقتصادية وحماية الموارد البيئية، وهو ما ينسجم مع رؤية المملكة 2030.
مدينة شفيلد في المملكة المتحدة تمثل نموذجًا بارزًا للتحول البيئي والاقتصادي، وهو تحول عايشته عن قرب خلال إقامتي التي امتدت لأكثر من عشر سنوات. كانت شفيلد مدينة صناعية بامتياز، تعتمد على صناعة الحديد والصلب التي أسهمت في تلويث البيئة واستنزاف الموارد الطبيعية. لكن التحول الجذري حدث حين قررت المدينة إغلاق المصانع الملوثة وتوجيه اقتصادها نحو التعليم والبحث العلمي.
بدأت شفيلد بإطلاق برامج تشجير مكثفة وإعادة تأهيل المناطق الصناعية، مما أسهم في تقليل نسب التلوث وتحسين جودة الهواء. وفي الوقت نفسه، تحولت إلى مركز أكاديمي عالمي، مستقطبة الطلاب من مختلف أنحاء العالم، مما جعل التعليم والبحث العلمي القاعدة الجديدة لاقتصادها. لم يكن هذا التحول مجرد تغيير اقتصادي، بل كان درسًا في كيفية إعادة بناء المدن على أسس الاستدامة البيئية والاقتصادية معًا.
في المملكة العربية السعودية، يتجاوز التركيز على تحسين الأنظمة الصحية إلى توسيع نطاق محاسبة البيئة لتشمل المؤسسات الصحية كجزء من استراتيجية وطنية شاملة. فالاهتمام بالبيئة لا يقتصر على حماية الموارد الطبيعية، بل يشمل أيضًا معالجة الأعباء الصحية الناجمة عن تلوث الهواء والمياه، وانتشار الأمراض المعدية نتيجة الإهمال البيئي.
من هنا، يأتي دور محاسبة البيئة في القطاع الصحي كأداة لقياس التأثيرات البيئية الناتجة عن العمليات الصحية. إدارة المخلفات الطبية والتعقيم البيئي وتطوير أنظمة التهوية الذكية ليست مجرد إجراءات تنظيمية، بل هي استثمارات استراتيجية تسهم في خفض تكاليف العلاج طويلة الأجل، وتحسين جودة الحياة العامة.
وفي الوقت الذي تعمل فيه المملكة على تعزيز الرقابة البيئية في المنشآت الصحية، تواصل البلديات جهودها الحثيثة لتطوير برامج رقابية تسهم في الحد من الأضرار البيئية. فالرقابة على المنشآت الصناعية والتجارية والسكنية، وتطبيق معايير التعقيم والنظافة، باتت ضرورة ملحة للحد من التلوث وتقليل الفاقد المالي الناتج عن الإهمال.
إطلاق برامج تدريبية متخصصة في محاسبة البيئة والاقتصاد الصحي يمثل خطوة استراتيجية نحو إعداد كوادر وطنية قادرة على تحليل التكاليف البيئية وإعداد تقارير مالية دقيقة، تعكس الواقع وتقدم توصيات مبنية على أسس علمية. في هذا السياق، يمكن للمملكة أن تستلهم من تجربة شفيلد، حيث أثبتت التجربة أن التحول من اقتصاد صناعي ملوث إلى اقتصاد معرفي قائم على التعليم والبحث العلمي يمكن أن يحقق التوازن بين الاستدامة والنمو الاقتصادي.
إن الرؤية الطموحة التي تتبناها المملكة تعكس اهتمامًا واضحًا بالاستدامة البيئية كجزء لا يتجزأ من التنمية الشاملة. وفي ظل الدعم المتواصل من القيادة الرشيدة، ممثلة بخادم الحرمين الشريفين الملك سلمان بن عبد العزيز وسمو ولي العهد الأمير محمد بن سلمان – حفظهما الله -، تواصل المملكة مسيرتها نحو تحقيق اقتصاد صحي متكامل يعتمد على كفاءة الموارد وحماية البيئة.