كنت في زيارة لورشة رسم مخصصة للأطفال فشاهدت طفل في عمر الخامسة يرسم لوحة غاية في الجمال و بمستوى عالي من الاحتراف في مهارة الرسم.
من هنا تبادر إلى ذهني بأن هذا الطفل موهوب و متميز في مجال الرسم مقارنة مع الأطفال الذين في عمره من سن الخامسة، فتتبعت قصة تطور موهبته في الرسم و عرفت من الطفل و من أسرته أنه تم اكتشاف موهبته منذ سنتين حيث لاحظت أسرته أنه يحاول تقليد أخوته في الرسم على الأوراق.
وبعد فترة تم ملاحظة هذا الطفل أن مهارته في الرسم قد بدأت تتطور بشكل تدريجي، بعدها قامت الأسرة بالتركيز على تدريبه بشكل مكثف إلى أن تطورت مهاراته إلى أن أصبح موهوب في مجال الرسم في هذه الصورة التي وصلنا لها الآن.
و بعد بحثي في قصة موهبة هذا الطفل تبين لي أن أحد الأبوين في الأصل لديه موهبة الرسم وقد اكتسب منه بعض أبناء هذه الأسرة موهبة الرسم، و هذا الطفل واحد منهم.
و الآن دعونا نربط بين هذه القصة و بين نظريات الموهبة، حيث تؤكد نظريات الموهبة أن أصل الموهبة هي وراثة و لكي تتطور هذه الموهبة يجب أن تدعمها البيئة المحيطة بها، فهذا الطفل قد ورث موهبة الرسم من أحد أبويه حيث كان يشاهده و هو يمارس مهارة الرسم فتحركت موهبته الكامنة نحو مجال الرسم، و حاول هذا الطفل أن يقلد أخوته في مهارة الرسم ، فقدمت له أسرته أوراق و أقلام وقاموا بتدريبة بشكل مستمر على مدار سنتين إلى تطورت موهبته في مجال الرسم إلى مستوى إبداعي متميز مبهر مقارنه بمن هو في سنه من الأطفال في عمر الخامسة.
فموهبة الرسم لدى هذا الطفل هي موهبة بالوراثة ، و البيئة الداعمة لموهبة هذا الطفل هي أسرته التي دعمته بالتدريب، و مجال موهبته هي الرسم، و من نظريات الموهبة تأتي الأسئلة التالية :
السؤال الأول: ماذا لو أن هذا الطفل الموهوب لم يشاهد أفراد أسرته و هم يرسمون في كراسات الرسم؟
الإجابة على السؤال الأول: لكانت النتيجة بأن هذا الطفل الموهوب لم يتم اكتشافه في وقت مبكر، وربما تأخر اكتشاف موهبته لعدة سنوات.
السؤال الثاني : ماذا لو أن أسرة هذا الطفل الموهوب قد اكتشفوا أن طفلهم موهوب في الرسم و لكن هذه الأسرة أهملته و لم تقدم له أي تدريب و لم تقدم له الدعم من شراء أقلام التلوين و كراسة الرسم ؟
الإجابة على السؤال الثاني : لكانت النتيجة بأن هذا الطفل الموهوب قد خسر خبرات إثرائية كثيرة في مجال الرسم ، مما يجعله ينتظر الفرصة لتدريبه و إثرائه لعدة سنوات ، بينما لو تم الاستفادة من هذه السنوات في إثراء و تدريب هذا الطفل على مهارة الرسم لكانت كفيلة بأنها تطور موهبته بأعلى جودة و أن تظهر تميزه و إبداعاته بشكل مبهر .
السؤال الثالث : ماذا لو أن أسرة هذا الطفل قد اكتشفوا أن طفلهم موهوب في الرسم ، و تم تدريبه و إثرائه في مجال الرسم ، ولكن أخوته لا يمارسون هواية الرسم في المنزل ؟
الإجابة على السؤال الثالث : لكانت النتيجة أن هذا الطفل الموهوب تم اكتشاف موهبته و تم تدريبه و إثرائه لتطوير موهبته ، ولكن هذا الطفل قد يفقد الحماس و الدافعية و المنافسة و التحدي نحو ممارسة موهبة الرسم ، مما ينتج أن يتأخر تطور موهبته و بالتالي يتأخر إبداعه و تميزه في مجال الرسم لعدة سنوات إلى أن يجد له زملاء موهوبين في الرسم سواء في المدرسة أو في نادي الرسم يشاركونه نفس هذه الموهبة و يرفعون مستوى دافعيته و حماسه لكي يطور مهاراته في الرسم و بالتالي يتنافس معهم في الإبداع في رسم اللوحات الفنية ، بينما كان من المفترض أن يسبق زملائه في مستوى الإبداع في الرسم فيما لو كانت قد اكتسب هذه الدافعية و الحماس من خلال منافسته مع أخوته داخل الأسرة .
السؤال الرابع : ماذا لو أن أسرة هذا الطفل الموهوب اكتشفت أن طفلها موهوب في الرسم ، و لم تقم بتدريبه و إثرائه في مجال الرسم ، بل قامت بتدريبه و إثرائه في مجال الرياضيات ؟
الإجابة على السؤال الرابع : سوف يتعلم هذا الطفل مهارة الرياضيات ، و قد تكون مهارة الرياضيات لدى هذا الطفل بمستوى إثرائه في موهبة الرسم و بالتالي تم اكتشاف موهبة أخرى ، و قد لا تكون مهارة الرياضيات بمستوى إثرائه بموهبة الرسم و بالتالي يكون مستوى تعلمه في مهارات الرياضيات بالمستوى العادي مثل مستوى تعلم أي طفل عادي في هذا السن ، و لكن لن يكون ميوله و اتجاهه نحو الرياضيات مثل ميوله و اتجاهه نحو موهبة الرسم ، و بالتالي فإن هذا الطفل لن ترتفع دافعيته و حماسه نحو مجال الرياضيات و ربما التدريب على مهارات الرياضيات لن يعطي أي نتيجة و لن يحقق الطفل أي تقدم ملحوظ أو مميز في إثراء الرياضيات .
و من قصة هذا الطفل الموهوب و بناء على النظريات العالمية لتفسير مفهوم الموهبة نصل إلى النتائج الآتية :
1 – أن الموهبة أساسها وراثة .
2 – لكي يسهل علينا اكتشاف الموهبة الموروثة بشكل مبكر خاصة داخل الأسرة يتم تعريض الطفل لعدة أنشطة متنوعة و في مجالات متعددة مثل الرسم و القراءة و الكتابة و الحساب الرياضي و برامج الحاسب الآلي و غيره من المجالات الأخرى إلى حين أن نجد أن مهارة الطفل بدأت تنضج في أحد هذه المجالات و ان اهتمامه بدأ يزيد فيها .
3 – أن اكتشاف موهبة الطفل في الأسرة لا يكفي لتطوير موهبته ، بل لا بد من الاستمرار في إثرائه و تدريبه في مجال موهبته إلى تتطور مهارته و يصبح متميزا و مبدعا فيها .
4 – بالإضافة إلى تدريب و إثراء الطفل الموهوب داخل الأسرة أو خارجها أو في المدرسة ، حينما يكون موجود بين أخوته أو بين زملائه يشاركونه المهارة في نفس مجال الموهبة فإن منافسته و دافعيته و حماسه سوف تزداد نحو التعلم و الإثراء بل يتعدى ذلك إلى الإبداع و التميز في أدائه و في إنتاجاته و مبتكراته .
و الخلاصة أن الاتجاه الصحيح في بوصلة الموهبة الموروثة يكون في اكتشافها و رعايتها ( في وسط بيئة داعمة ) لكي تنمو و تنضج حتى تصل إلى مرحلة الإبداع و التميز ، فالموهبة الموروثة مثل البذرة التي تم زراعتها في الأرض ، و لكي تنمو هذه البذرة لتصبح نبتة مثمرة فإنها تحتاج إلى عدد من الشموس ، و هي شمس الفرصة ( الاكتشاف من خلال الأنشطة ) ، و شمس الإثراء ( التدريب على الموهبة التي تم اكتشافها ) ، و شمس الأسرة و الأصدقاء و زملاء المدرسة ( الدافعية و الحماس و المنافسة ) ، و شمس مجال الموهبة ( نوع الموهبة ) .