ليت أبا عثمان الجاحظ حي يرزق اليوم لكي يُسمعنا ما قاله في كتاب الحيوان: “الكتاب هو الجليس الذي لا يطريك، والصديق الذي لا يغريك، والرفيق الذي لا يملّك، والصاحب الذي لا يريد استخراج ما عندك بالملق”؛ فلم يعد الأمر كذلك عند كثير من العرب الذين صدروا العلم والفكر إلى العالم. فالكتاب لم يعد غير صديق فقط بل أصبح كثيرون ينفرون منه.
فرغم أن الكتب لم تعد شحيحة أبدًا كما كانت في زمن الجاحظ، بل متوفرة ورخيصة نسبيًّا، وخفيفة الوزن مقارنة بأيام الجاحظ، فإن أبناء يعرب لم تتوثق علاقتهم بها كما كانت سابقًا.
ليتهم اعتبروها كما اعتبرها الكاتب والشاعر الإنجليزي صمويل جونسون: مرشدة في الصغر، وتسلية في الكبر، ورفيقًا في العزلة. أو كما قال عنها تشارلز إليوت: إنها أفضل الأصدقاء وأقلهم ثرثرة. أيسر وأحكم من نستشير، وأكثر المعلمين صبرًا.
هل يعلم المفكر الجزائري مالك بن نبي، حين ألف كتبه القيّمة في الفكر الإسلامي وقال في أحدها: إن “الكتاب هو الخطاب الموجه إلى الأصدقاء المجهولين على وجه الأرض”، هل كان يعلم أنه رغم أن له أصدقاء كثرًا بعد عقود من وفاته، هناك أيضًا من لم يأبه لذلك الخطاب ولم يكلف نفسه حتى بقراءته؟
فمهما افتقدتَ الصديق الوفي، والخليل المقرب، فإن الكتاب خير بديل، فقد قال كاتب المقالات الفرنسي الذي جعل من الفلسفة أدبًا، ميشيل دي مونتاني: “أن تقرأ يعني أن تجـد الصديق الذي لن يخونك أبـداً”.
وأخيرًا لو كنا نقرأ جيدًا كما تفعل الشعوب المتقدمة لعلمنا على الأقل من هو صاحب المقولة: “الكتاب هو الصديق الوحيد الذي يمكنك أن تفرغ إليه شحنة غضبك كاملة وتجده رغم ذلك يحتضنك ويقف بجانبك”، أو قائل هذه الجملة: “لقد عوضتني القراءة عن الأصدقاء الذين لم يبقوا، عن المدن التي لم أزر، عن الطرقات التي لم أقطع، لقد أنرت زوايا وحدتي بالكتب”.
وختامًا، رحم الله أمير الشعراء أحمد شوقي حين قال:
أنا من بدل بالكتب الصحابا *** لم أجد لي وافيًا إلا الكتابا
صاحبٌ إن عبته أو لم تعب** ليس بالواجد للصاحب عابا
كلما أخلقْتُه جدَّدني** وكساني من حلي الفضل ثيابا
صحبة لم أشك منها ريبة ** ووداد لم يكفلني عتابا