لم تعد الملتقيات التربوية في عصر المعرفة مجرد مناسبات لعرض التجارب أو تبادل الخبرات، بل غدت منصات مؤثرة في توجيه الممارسة التعليمية، وصناعة القرار التربوي، وبناء الشراكات البحثية. فالقيمة الحقيقية لأي ملتقى لا تُقاس بزخم الحضور أو كثافة العناوين، بقدر ما تُقاس بقدرته على تحويل المعرفة إلى أثر، والبحث إلى ممارسة، والنقاش إلى سياسات تطوير مستدامة.
في هذا السياق، جاء الملتقى الأول لفصول الموهبة، الذي عُقد يوم السبت 13 ديسمبر 2025 برعاية مؤسسة الملك عبدالعزيز ورجاله للموهبة والإبداع (موهبة) وبالشراكة مع جامعة الملك سعود، ليقدّم نموذجًا جديرًا بالتأمل والتحليل، لا بوصفه فعالية علمية فحسب، بل باعتباره مؤشرًا على تحوّل نوعي في مسار تربية الموهوبين في المملكة.
لقد مثّل هذا الملتقى استجابة واعية لحاجة طالما نادى بها الممارسون في الميدان، وهي الانتقال من النظر إلى فصول الموهبة كخبرات صفية معزولة، إلى التعامل معها بوصفها منظومة متكاملة تتقاطع فيها نتائج البحث العلمي مع التطبيق التربوي، وتلتقي فيها الممارسة اليومية مع متطلبات التخطيط وصناعة القرار.
ومن خلال خبرة ميدانية تمتد لأكثر من عقد في مجال تربية الموهوبين، وحضور مستمر للملتقيات والمؤتمرات التربوية، يمكن القول إن الملتقى تميّز برؤية شمولية واضحة. فقد تنوّعت الأوراق العلمية بين نماذج تطوير الموهبة (TGDM)، وتطبيقات STEM والروبوتات، واستراتيجيات التقويم التكويني، والصف المقلوب، إلى جانب موضوعات نفسية عميقة مثل المرونة النفسية، والفاعلية الذاتية، والإقناع العلمي. هذا التنوع لم يكن تراكميًا أو شكليًا، بل عكس وعيًا بأن رعاية الموهوبين تتطلب تكاملًا معرفيًا وتربويًا ونفسيًا.
كما برز الحضور الواضح للمنهجية العلمية في معظم الأوراق، من حيث الاعتماد على البيانات وتحليل النتائج، وهو ما يعكس توجهًا متناميًا نحو الممارسة المبنية على الأدلة. ورغم أن الوقت المحدود لم يسمح بنقاش معمّق لجميع الأوراق، إلا أن الملتقى نجح في تجاوز مرحلة “عرض التجربة” إلى محاولة قراءة أثرها في تعلم الطلبة الموهوبين، وهو انتقال بالغ الأهمية في أي مشروع تربوي جاد.
ولعل من أبرز مكاسب الملتقى أنه عزز قيمة الشراكات البحثية بين الجهات التعليمية والجامعات، وأكد أن مدارس الشراكة بحاجة ماسة إلى مثل هذه المنصات التي تربط النظرية بالتطبيق، وتمنح الميدان صوتًا علميًا مسموعًا.
ومع هذا النجاح، فإن القراءة المهنية الموضوعية تقتضي التوقف عند ما كان يمكن إضافته لرفع الملتقى من مستوى “الحدث العلمي المهم” إلى مستوى “المنصة المرجعية”. فامتداد الملتقى ليوم واحد، على سبيل المثال، لم يكن كافيًا لاستيعاب عمق الطرح العلمي المطروح، وكان من الممكن أن يتيح التمديد الزمني مساحة أوسع للنقاش والتحليل. كما أن اعتماد نموذج موحّد لإدارة جلسات النقاش، يركّز على أسئلة القرار المهني من قبيل: ماذا نعتمد؟ ماذا نجرّب؟ وماذا نطوّر؟، كان سيمنح الملتقى بعدًا أكثر ارتباطًا بصناعة القرار التربوي.
كذلك، فإن تخصيص مساحة منهجية لترجمة البحث إلى ممارسة، من خلال إنتاج أدوات تطبيقية أو بروتوكولات جاهزة للتنفيذ في فصول الموهبة، كان سيعزز الأثر العملي للأوراق العلمية. ويضاف إلى ذلك أهمية وجود مناقشة منهجية مستقلة لكل ورقة، تُعنى باختبار جودة الأدوات البحثية، وحدود النتائج، وإمكانات التعميم، إلى جانب توثيق مخرجات النقاش في سجل معرفي يُعاد توظيفه في النسخ القادمة وفي مدارس الشراكة.
إن هذه المقترحات لا تنتقص من قيمة الملتقى، بل تنطلق من حرص مهني على تطويره وتعظيم أثره، وتحويله إلى مرجعية وطنية في مجال تربية الموهوبين.
ختامًا، يمكن القول إن هذا الملتقى لم يكن مجرد فعالية علمية عابرة، بل رسالة واضحة بأن تربية الموهوبين في المملكة العربية السعودية تنتقل بثبات من مرحلة المبادرات المتفرقة إلى مرحلة النضج المؤسسي المبني على الأدلة. وهو توجه يستحق الإشادة والدعم، لما يحمله من أثر مباشر في جودة الممارسة التعليمية، ومستقبل الموهبة الوطنية.
الشكر موصول لمؤسسة موهبة، وجامعة الملك سعود، ولكل باحث ومعلم ومشرف أسهم في هذا العمل النوعي. فمثل هذه الملتقيات هي التي تصنع الفارق الحقيقي، حين تتحول من منصات عرض إلى أدوات أثر، ومن مناسبات علمية إلى روافع استراتيجية لمستقبل تربية الموهوبين.