هناك مدن نمرّ بها مرور العابر، وهناك مدن تستقر في القلب من أول حضور، لا لأنها تفرض نفسها، بل لأنها تمنحك شعور الألفة دون مقدمات. والأحساء من تلك المدن التي لا تُعرَف بالوصف بقدر ما تُعرَف بالتجربة؛ فهي لا تستقبل الزائر باعتباره ضيفًا عابرًا، بل تتعامل معه كإنسان له مكان محفوظ في الذاكرة والوجدان.
في الأحساء يسبق الترحيب السؤال، وتُقدَّم القهوة كرسالة ودّ قبل أن تكون عادة، وتُقال «حياك الله» بصدق يجعلها فعلًا قبل أن تكون كلمة. الكرم هنا ليس مظهرًا اجتماعيًا ولا طقسًا متكررًا، بل طبيعة هادئة متجذّرة تظهر في بساطة التعامل، وفي حرص الناس على راحة من يجاورهم أو يزورهم، وفي اهتمام لا يُقال عنه كثيرًا لكنه يُشعَر به سريعًا.
الأحسائي لا يبالغ في عطائه ولا يستعرضه، بل يمنحه بهدوء وثقة، ويقدّم الإنسان على التفاصيل، ويجعل من الاحترام أساس العلاقة، ومن الطيبة عنوانًا دائمًا. هذا الكرم المتوازن لم يتكوّن صدفة، بل هو امتداد لتاريخ طويل من التعايش، ولمجتمع تعلّم أن القيم لا تُرفع بالشعارات، بل تُمارس في الحياة اليومية.
ومن هنا، فإن الكرم الأحسائي لا يمر عبر الأيدي فقط، بل يترك أثره في النفوس، ويمنح المكان هويته الإنسانية الخاصة. والحديث عن الأحساء في هذا السياق ليس حديث حنين، بل شهادة تقدير لمدينة ما زالت تحافظ على بساطتها وعمقها الإنساني في آن واحد.
فالأحساء، بما تمثّله من نموذج اجتماعي راقٍ، تذكّرنا بأن الكرم حين يكون أصيلًا يصبح جزءًا من ثقافة المجتمع، وقيمة حاضرة في تفاصيله، وعنوانًا مضيئًا لهوية مكان يستحق أن يُشار إليه دائمًا بكل احترام.
وإلى هنا، مع خالص تقديري واحترامي، ولنا لقاء الأسبوع القادم إن شاء الله.