هناك لحظات في حياة الإنسان لا ينجو منها كما هو بل يخرج منها محمّلًا بقوة جديدة كأن الكون أمسك كتفيه وهزّه هزًا ليوقظه وأنا يوم دخلت جامعة الملك فيصل كطالب علم لم أكن أدرك أنني دخلت المكان الذي سيحرق كل ضعف بداخلي ويصهرني من جديد في قالب رجل يعرف أين يقف وإلى أين يذهب جاءتني الجامعة كعاصفة نور ككتاب مفتوح على أسرار الحياة كحقيقة تقف في وجهي وتقول لي إذا أردت أن تكبر… فهنا تكبر وإذا أردت أن تُولد من جديد… فهنا تولد.
هذه الجامعة ليست جدرانًا ولا محاضرات ولا درجات على ورق… هذه الجامعة نار
نار تُنضج الوعي وتُعيد ترتيب الروح وتُجبرك على أن تواجه نفسك قبل أن تواجه العلم كنت أول مصري يحصل على الماجستير منها ولم أشعر للحظة أنني غريب بل شعرت أن السعودية العظيمة تحتضنني بذراعين من نور وأن الأحساء تفتح لي أبواب قلبها كما تفتح الأم ذراعيها لطفل عاد إليها بعد غياب طويل
الأحساء… أي مدينة هذه؟
مدينة لا تستقبلك بترحاب عابر بل تستقبلك بحياة كاملة مدينة إذا سكنت قلبك لا تخرج منه أبدًا مدينة لا تُربّت على كتفك بل تُمسك بيدك وتحملك إلى السماء وبين نخيلها ومائها ووجوه أهلها الطيبين فهمت شيئًا لم أفهمه من قبل أن المكان قد يتحول إلى قدر وأن القدر أحيانًا يكون جميلًا إلى درجة تربكك.
وفي قلب هذا الجمال الضارب في العمق تقف جامعة الملك فيصل كصوت هادر يقول لكل طالب هنا نحن لا نُخرّج حملة شهادات نحن نُخرّج رجالًا هنا نصنع العقول كما يُصنع السيف بالنار بالضغط وبالإصرار على أن يكون العمل أكبر من كل خوف هنا تُعامل كإنسان كامل لا كأجنبي جاء من بعيد وهنا يتحول المقيم إلى جزء من قصة السعودية العظيمة التي تؤمن أن بناء الإنسان أهم من بناء الحجر.
كنت أمشي في ممرات الجامعة وأشعر أن الأرض تحت قدمي ليست أرضًا عادية بل أرضًا تحمل ذاكرة أحلام آلاف الشباب أبناء السعودية العظيمة والمقيمين الذين جاؤوا يبحثون عن أداة يعرفون بها أنفسهم فوجدوا مستقبلهم يكتب أمامهم سطرًا بعد سطر وفي كل محاضرة في كل نقاش في كل كلمة قالها أستاذ مخلص كانت النار داخلي تكبر… تكبر… حتى صرت إنسانًا جديدًا لا يشبه ذلك الشاب الذي عبر بوابة الجامعة أول مرة
ولعل أجمل ما تعلّمته في جامعة الملك فيصل أن العلم لا ينتهي عند أبواب التخرّج بل يبدأ حين يشعر الإنسان أن عليه دينًا لهذا المكان… دينًا يُسدَّد بالمعرفة التي اكتسبها وبالخبرات التي نضجت فيه عبر السنين وكلما رأيت طلاب اليوم يسيرون في الممرات نفسها التي صنعتني شعرت أن في داخلي رغبة صادقة أن أكون جزءًا من رحلتهم أن أضع بين أيديهم ما وهبته لي هذه الجامعة من أدوات وأن أُعيد شيئًا بسيطًا من فضلها على حياتي فجامعة تُنضج الرجال شرفٌ لأي ابنٍ من أبنائها أن يساهم ولو بقدر يسير في صناعة جيلها القادم…
وإذا سألتني اليوم ما الذي صنعته لك جامعة الملك فيصل؟
أقول لم تُعلّمني فقط بل أعادت بناءي لم تمنحني درجة علمية بل منحتني هوية جديدة لم تفتح لي بابًا بل فتحت الكون بأكمله.
جعلتني أرى السعودية العظيمة بعين جديدة وأرى الأحساء بقلب جديد وأرى نفسي بصدق لم أجرؤ على مواجهته من قبل
ستظل جامعة الملك فيصل نارًا تمشي معي أينما ذهبت… نارًا تحرق الخوف في داخلي كلما واجهت طريقًا جديدًا ونورًا يشقّ العتمة حين تضيق الدنيا
وستظل الأحساء وطنًا روحيًا لا يغيب مهما ابتعدت
وستظل المملكة العربية السعودية تاجًا على رأس كل من عاش على أرضها بصدق وشرف
هذه ليست قصة دراسة… بل قصة ولادة
ومن يدخل جامعة الملك فيصل لا يتخرج منها فقط بل يخرج منها مشتعلًا بالحياة
فشكرًا لجامعة الملك فيصل ولكل القائمين على خدمتها لأنها القلب النابض لمدينة الأحساء… مدينة القلب قبل الأرض
وإلى هنا مع خالص تقديري واحترامي…
ولنا لقاء الأسبوع القادم إن شاء الله.