د. هشام رجاء يكتُب: الأحساء التي تسكن القلب قبل الأرض

التعليقات: 6
د. هشام رجاء يكتُب: الأحساء التي تسكن القلب قبل الأرض
د. هشام رجاء
https://wahhnews.com/?p=90869
د. هشام رجاء يكتُب: الأحساء التي تسكن القلب قبل الأرض
الواحة نيوز

هناك مدن تمر بنا فنغادرها ثم تنطفئ ملامحها في الذاكرة وهناك مدن تمُرّ بنا فنظن أنّنا تركناها بينما الحقيقة أنها هي التي تستقر في داخلنا تنام في أرواحنا وتنهض معنا كل صباح والأحساء بالنسبة لي ليست مدينة على خارطة السعودية العظيمة بل هي سيرة عمر كامل سبعة عشر عامًا من الدهشة والسلام الإنساني والنُبل سبعة عشر عامًا تغيّر فيها وعيي وامتدت فيها رؤيتي للحياة كما تمتد واحتها في قلب الصحراء تلك الواحة التي تشبه قلب أهلها نقيًا وصبورًا وواسعًا كسماءٍ لا تعرف الضيق.

جئت إلى الأحساء شابًا يحمل حقيبة معلّم وطموح باحث فوجدت نفسي أمام مجتمع يعرف كيف يحتضن الغريب قبل أن يسأل من أين جاء مجتمع يصنع من احترامه لك جسرًا يجعلك تشعر بأنك واحد من أهله حتى قبل أن تحفظ أسماء الأماكن والطرقات رأيت فيها كيف يمكن للتاريخ أن يمشي بجوار الحداثة دون خصام وكيف تبقى الأصالة حيّة ليست مجرد شعار يردّده الناس بل ممارسة يومية نلمسها في السلام الذي يبدأ من الباب وفي كوب الشاي عند المقاهي القديمة وفي ملامح كبار السن الذين يحملون في عيونهم ذاكرة بلد لا تنسى فضل أحد.

وما بين فصول دراسية كنت أدرّس فيها أبناء الأحساء الكرام وممرات المدرسة حيث كنت أمارس دوري مرشدًا طلابيًا للمرحلة الثانوية اكتشفت معدن هذا الجيل شباب يعرف معنى الاجتهاد ويحمل يقينًا بأن المستقبل لا يُوهب بل يُنتزع بالصبر والمعرفة وفي كل مرة كنت أرى أحلامهم تكبر كنت أشعر بأن دوري صغير أمام عظمة هذا المجتمع الذي يبني أبناءه بالهدوء لا بالصخب وبالمحبة لا بالسطوة وبالعمل اليومي الذي يخط طريقه دون ضجيج.

وفي حضن جامعة الملك فيصل حيث أكملت دراساتي العليا لم أكن أدرس علم الاجتماع فقط بل كنت أدرس الإنسان الحساوي ذاته بنمط تفكيره ونبله وهدوئه العميق وكان فضل الله ثم هذه الجامعة العريقة أن أُتِمّ الماجستير وسط بيئة علمية تحترم العقل وتمنح الباحث المفتاح لا الأوامر وتسأل قبل أن تُعلّم وتُحاور قبل أن تُحسم هناك تشكّلت ملامح جديدة في تجربتي وهناك ولدت صداقاتي التي لا تُقدّر بثمن ومن بينها صداقتي التي أعتزّ بها مع الدكتور عبدالله السعيد الرجل الذي يُشبه الأحساء في اتزانه وشجاعته الإعلامية وحضوره الإنساني الهادئ.

واليوم وأنا أكتب أول سطر من سلسلة مقالات أسبوعية أقدّمها لصحيفة الأحساء نيوز أشعر بأنني لا أكتب مقالًا عاديًا بل أكتب ردًّا على جميل مدينة ربّتني أكثر مما رَبّيت وعلّمتني قبل أن أعلّم واحتوتني قبل أن أحتوي أكتب وأنا أعرف أن الأحساء ليست موضوعًا سهلاً فالكتابة عنها تشبه الكتابة عن إنسان نحبه نخشى أن نظلمه إن بالغنا في المدح أو بالغنا في النقد لكنها أيضًا مدينة تستحق أن تُروى حكاياتها كما هي صادقة قوية ناعمة محافظة على روحها دون أن تتوقف عن التغيير
الأحساء اليوم تقف في قلب مرحلة جديدة من التحولات الضخمة التي تشهدها المملكة في ظل رؤية السعودية 2030 رؤية لا تنتظر أحدًا بل تدعو الجميع للمشاركة وقد رأيت بعيني كيف تغيّر وجه الأحساء خلال السنوات الأخيرة وكيف تتقدّم بثقة نحو مكانها الطبيعي كواحة علم وثقافة واقتصاد وإنسان وهي ليست مجرد شبكة طرق أو مشاريع تنموية بل مشروع كبير عنوانه الإنسان الحساوي نفسه بعقله بهويته وبطموحه الذي يعلو كل يوم مثل نخيلها الطويل.

سأكتب في الأسابيع القادمة ان شاءالله عن التحولات الاجتماعية وعن ذاكرة الأماكن وعن التعليم الذي كان ولا يزال رافدًا أساسيًا في تشكيل وعي المجتمع وعن الجامعة التي صنعت قامات فكرية وعن الشباب الذين يشبهون الفجر حين يصرّ على الصعود مهما طالت العتمة وعن قصص إنسانية لا يمكن أن يحملها إلا من عاش هنا وعرف طعم هذه الأرض وملحها ومائها وضحكات أهلها.

هذا المقال ليس افتتاحية بقدر ما هو وعد وعد بأن تكون الكلمة في خدمة الحقيقة وأن يكون القلم بوابة لفهم أعمق لهذه المدينة وأن تكون كل جملة محاولة للوفاء لسبعة عشر عامًا صنعت في داخلي ما لا يصنعه العمر كله.

إلى الأحساء التي عرفتها وإلى الأحساء التي تتشكل كل يوم وإلى أهلها الذين يسكنون القلب قبل الأرض أكتب اليوم أول حرف من حكاية طويلة تبدأ من هنا ولا أعرف أين تنتهي لكنني أعرف يقينًا أنها ستظل تنتمي إليكم كما أنتمي إليها.

مع خالص تقديري واحترامي ولنا لقاء الأسبوع القادم إن شاء الله

التعليقات (٦) اضف تعليق

  1. ٦
    المصحح

    صحيفة الواحة نيوز

  2. ٥
    زائر الناس

    دكتور هشام انا حاب اعزمك على وليمة عشاء

    • ٤
      زائر

      أخي الكريم أشكر لك لطفك وكرمك وطيب ذوقك وهذا ليس غريبًا على أهل الأحساء الذين دائمًا يسبقونك بالمحبة قبل الكلمات يسعدني تقديرك لما كتبت ودعوتك محل اعتزاز كبير لدي غير أن وجودي حاليًا خارج الأحساء قد لا يسمح لي بتلبية الدعوة في هذا الوقت
      ومع ذلك يظل كرمك هذا وسامًا على صدري وأرجو أن يجمعنا الله على خير في لقاء قريب
      دمت مُقدّرًا ومشهودًا لك بنُبل أهل هذه الأرض الطيبة

  3. ٣
    زائر

    استاذ هشام درسني في الابتدائي كان مرشد طلابي في مدرسة دور العلوم بالهفوف صح؟

    • ١
      زائر

      دار العلوم وليس دور🌹

اترك تعليق على زائر الغاء الرد

بريدك الالكترونى لن نقوم بأستخدامه.

You may use these HTML tags and attributes:
<a href="" title=""> <abbr title=""> <acronym title=""> <b> <blockquote cite=""> <cite> <code> <del datetime=""> <em> <i> <q cite=""> <s> <strike> <strong>