كان جورج أورويل يقول في مزرعة الحيوان:
«السلطة لا تفسد الناس… بل تكشفهم.»
جملة قصيرة، لكنها تحمل في جوفها ضوءًا وظلًّا، كأنها مرآة تُظهر الوجه الذي نخفيه عن أنفسنا. وما إن تُفتح هذه المرآة حتى تقفز إلى الذاكرة غرفة ستانلي ميلغرام في جامعة ييل:
غرفة ضيقة، رجل عادي، لوحة صدمات، وضحية خلف جدار، وصوت باحث بارد يقول:
«التجربة تتطلّب أن تستمر.»
مجرد معطف أبيض، ومع ذلك انحنى له الإنسان… وانحنت معه ضمائر كثيرة.
كانت تجربة ميلغرام تبحث في الطاعة، لكن ما كشفته كان أبعد من ذلك:
كشفت كيف يمكن لسلطة رمزية—ليست حقيقية حتى—أن تفتح بابًا داخل بعض البشر، بابًا لا يُفتح إلا حين يشعرون بأن أحدًا تحتهم، ولو للحظة.
ولهذا لم يكن غريبًا أن تُوقَف التجربة لاحقًا، بعدما اتضح أنها تُعرّي هشاشة البشر بشكل صادم، وتترك فيهم أثرًا نفسيًا لم يُرَد أن يستمر.
وليس الناس اليوم بعيدين عن تلك الغرفة.
كم مسؤول دمّرك وهو يعلم أنه قادر؟
كم رئيس قهرك لأن الكلمة عنده؟
كم يد صغيرة حملت ختمًا كبيرًا فهدمت أحلامًا أكبر؟
فالإنسان حين يتذوّق طعم الارتفاع، قد يتغير صوته، خطواته، وطبقة نظرته.
قد يصبح الظل ظلّين، وقد يتضاعف حجم “الأنا” حتى لا ترى بعدها شيئًا.
إنها ليست قسوة متعمدة دومًا، لكنها نشوة الصعود حين تلمس القلب، مخلوطة بخوف خفي من السقوط، أو رغبة دفينة في الانتماء إلى دائرة الأقوياء.
وهنا يولد السؤال: لماذا يختلف الناس؟
أهي التربية؟ أم منظومة القيم؟ أم جذور أخلاقية أعمق من كل منصب؟
فالبيئة التي تُصفّق للقوي مهما فعل، وتُخرس الضعيف مهما قال، تخلق جيلًا لا يرى العدالة إلا ضعفًا، ولا يرى الرحمة إلا نقصًا.
والطغيان لا يبدأ بضربة كبيرة… بل بنظرة.
ثم كلمة.
ثم قرار صغير لا يشعر صاحبه أنه أذى، لكنه بداية السقوط.
هكذا يتحول القلب شيئًا فشيئًا، كما يتحول الماء إلى جليد… ببطء، حتى تُفاجأ بصلابة لا تشبه أصله.
لكن القوة ليست دائمًا لعنة… فقد يرفعها القلب العظيم حتى تصبح نورًا لا سوطًا.
وخير شاهد على هذا نور محمد ﷺ يوم فتح مكة.
كان أمامه كل ما يدفع بشرًا إلى الانتقام: وجوه آذته، أيدٍ قاتلته، وألسنة طالما شوّهته. ومع ذلك قال:
«اذهبوا فأنتم الطلقاء.»
كلمة واحدة أسقطت منطق القوة كله، ورفعت منطق الرحمة إلى مكان لا تصله التجارب ولا المختبرات.
ومثل هذا الضوء، يمرّ في عصرنا أيضًا:
ذلك المدير الذي فضّل العدل على المصالح،
والطبيب الذي لم يتعالَ على مريض فقير،
والمعلم الذي رأى في تلميذه إنسانًا قبل أن يراه رقمًا.
بهذه المواقف الصغيرة تنهزم شهوة الاستبداد، وتنتصر روح الإنسان.
وتذكر أن السلطة كالماء…
إن دخلت وعاءً نظيفًا بقيت صافية، وإن دخلت قلبًا معكّرًا عكّرته.
وبين هذا وذاك، يبقى الإنسان—كل إنسان—يمرّ بلحظة يعود فيها إلى نفسه، لا لذكرياته الخاصة بل لسؤال عام، وجودي، يطرق القلب ليلًا كما يطرق المطر نافذة مهجورة:
هل كنتُ عادلًا حين استطعت أن أكون؟
هل رحمتُ حين كان الأمر بيدي؟
هل نطقت كلمة حق حين كان الصمت أرخص؟
هل أظهرت السلطة أجمل ما فيّ… أم أسوأ ما استتر في الظل؟
وهنا تكتمل الصورة بما يُقوّيها:
إن أكبر امتحان للإنسان ليس لحظة ضعفه، بل لحظة قوته.
فالضعف يخفي، والقوة تكشف.
ومن عرف نفسه في زمن الخوف لم يعرفها بعد، حتى يُبتلى بزمن السيطرة، حين يستطيع أن يُهين فيعفو، ويستطيع أن يأمر فيرفق.
فالسلطة ليست حكراً على المناصب:
هي بين أصابع الأم، وفي صوت المعلم، وفي قرار الطبيب، وفي توقيع الموظف البسيط.
كل يوم نمتلك جزءًا منها، وكل يوم نُختبَر بذلك الهمس الخفي:
«ستُطاع… فماذا ستفعل؟»
وهكذا، حين نجمع تجربة ميلغرام، واقتباس أورويل، وفتح مكة، ووجوه المسؤولين الذين مرّوا في حياتنا—الذين ظلموا أو عدلوا، دمّروا أو رفعوا—يبقى الدرس الأخير واحدًا:
السلطة لا تصنع الإنسان… بل تكشفه.
تكشف رحمته إن كان رحيمًا،
وقسوته إن كان قاسيًا،
نقاءه إن كان نقيًا،
ووحشه إن كان الوحش نائمًا في داخله.
ولعلّ ما ينقص المقال ليبلغ قوته الكاملة هو أن نرى الصورة من زاوية أعمق: ليس كل من يملك سلطة فاسدًا، لكن كل سلطة تُعطى دون رقابة تتحول إلى سكين بلا غمد.
ميلجرام أثبت ذلك علميًا، والتاريخ أثبته واقعيًا، والرسول ﷺ أثبته أخلاقيًا
وما بين الضوء والعتمة… يُعرَف الإنسان
أمل الحربي تكتب: الكرسي لا يصنع الإنسان… لكنه يكشفه
التعليقات: 13
شكرًا لكِ على هذا المقال العميق يا أستاذة أمل، فقد لامس جوهر الحقيقة ببساطته وعمقه. كتبتِ فأنرتِ زاوية كثيرًا ما تُغفل: أن السلطة لا تخلق الإنسان بل تكشف معدنه، وأن العدل هو الامتحان الأول لكل من يجلس على الكرسي. طرحتِ الفكرة برصانة، وربطتِ بين العلم والتاريخ والأخلاق بأسلوب لا يملكه إلا كاتب متمكن.
سعدتُ بقراءته، وزادني احترامًا لفكركِ وقلمكِ. �
التعليق
شكرًا لكِ على هذا المقال العميق يا أستاذة أمل ، فقد لامس جوهر الحقيقة ببساطته وعمقه. كتبتِ فأنرتِ زاوية كثيرًا ما تُغفل: أن السلطة لا تخلق الإنسان بل تكشف معدنه، وأن العدل هو الامتحان الأول لكل من يجلس على الكرسي. طرحتِ الفكرة برصانة، وربطتِ بين العلم والتاريخ والأخلاق بأسلوب لا يملكه إلا كاتب متمكن.
سعدتُ بقراءته، وزادني احترامًا لفكركِ وقلمكِ. �
سلمت الايادي استاذتي الفاضلة. 🤍
سلمت يمناك استاذتي الفاضله 🤍
مقالات مماثلة للمؤلف:
هيئة الصحفيين بالأحساء تُعمّق الوعي المهني بورشة حول التأثير النفسي للإعلام
المؤلف: الواحة نيوز
برعاية سمو محافظ الأحساء.. وكيل المحافظة يفتتح معرض “بين بُعدين”
المؤلف: الواحة نيوز
بالشراكة مع أمانة الأحساء.. جمعية درر تطلق أول تطبيق فعلي للمجلس الاستشاري للطفل
المؤلف: الواحة نيوز
سمو محافظ الأحساء يطلع على جهود مركز عبدالله بن إدريس الثقافي
المؤلف: الواحة نيوز
أمانة الأحساء تعقد ورشة عمل لتحديد المؤشرات المحلية لبرنامج جودة الحياة
المؤلف: الواحة نيوز
جميع التعليقات و الردود المطروحة لا تعبر عن رأي (الواحة نيوز صحيفة ترصد نبض الأحساء لحظة بلحظة) بل تعبر عن رأي كاتبها.
2025 جميع الحقوق محفوظة, الواحة نيوز صحيفة ترصد نبض الأحساء لحظة بلحظة
تصميم خفاجى
إدارة التطوير مصطفى نصر
وطريقة الربط بين ميلغرام وأورويل وفتح مكة كان ذكي ومؤثر
مقالات مماثلة للمؤلف:
هيئة الصحفيين بالأحساء تُعمّق الوعي المهني بورشة حول التأثير النفسي للإعلام
المؤلف: الواحة نيوز
برعاية سمو محافظ الأحساء.. وكيل المحافظة يفتتح معرض “بين بُعدين”
المؤلف: الواحة نيوز
بالشراكة مع أمانة الأحساء.. جمعية درر تطلق أول تطبيق فعلي للمجلس الاستشاري للطفل
المؤلف: الواحة نيوز
سمو محافظ الأحساء يطلع على جهود مركز عبدالله بن إدريس الثقافي
المؤلف: الواحة نيوز
أمانة الأحساء تعقد ورشة عمل لتحديد المؤشرات المحلية لبرنامج جودة الحياة
المؤلف: الواحة نيوز
جميع التعليقات و الردود المطروحة لا تعبر عن رأي (الواحة نيوز صحيفة ترصد نبض الأحساء لحظة بلحظة) بل تعبر عن رأي كاتبها.
2025 جميع الحقوق محفوظة, الواحة نيوز صحيفة ترصد نبض الأحساء لحظة بلحظة
تصميم خفاجى
إدارة التطوير مصطفى نصر
قرأت المقال بتركيز صدقا نص قوي وعميق وطريقة الربط بين ميلغرام وأورويل وفتح مكة كان ذكي ومؤثر
لغتك جميله والفكرة متماسكة كما عهدناك هذا مستوى الكتاب المحترفين فخوره فيك استاذتي وقدوتي
مقالات مماثلة للمؤلف:
هيئة الصحفيين بالأحساء تُعمّق الوعي المهني بورشة حول التأثير النفسي للإعلام
المؤلف: الواحة نيوز
برعاية سمو محافظ الأحساء.. وكيل المحافظة يفتتح معرض “بين بُعدين”
المؤلف: الواحة نيوز
بالشراكة مع أمانة الأحساء.. جمعية درر تطلق أول تطبيق فعلي للمجلس الاستشاري للطفل
المؤلف: الواحة نيوز
سمو محافظ الأحساء يطلع على جهود مركز عبدالله بن إدريس الثقافي
المؤلف: الواحة نيوز
أمانة الأحساء تعقد ورشة عمل لتحديد المؤشرات المحلية لبرنامج جودة الحياة
المؤلف: الواحة نيوز
جميع التعليقات و الردود المطروحة لا تعبر عن رأي (الواحة نيوز صحيفة ترصد نبض الأحساء لحظة بلحظة) بل تعبر عن رأي كاتبها.
2025 جميع الحقوق محفوظة, الواحة نيوز صحيفة ترصد نبض الأحساء لحظة بلحظة
تصميم خفاجى
إدارة التطوير مصطفى نصر
التعليق
الثقة بالنفس وتحمل المسؤلية بكل امانة واخلاص واداء الرسالة السامية بمصداقية داخلية فى نفس الشخص ووضع خدمة وطنة ومجتمعة نصب عينية ويختار فريق العمل بدقة لاداء افضل لاثبات الجود والسرعة فى الاداء هذا يستحق الجلوس على كرسي المسؤلية والله يعين كل مجتهد ودمتم بخير
٣
ناصرالعتيبي
الثقة بالنفس وتحمل المسؤلية بكل امانة واخلاص واداء الرسالة السامية بمصداقية داخلية فى نفس الشخص ووضع خدمة وطنة ومجتمعة نصب عينية ويختار فريق العمل بدقة لاداء افضل لاثبات الجود والسرعة فى الاداء هذا يستحق الجلوس على كرسي المسؤلية والله يعين كل مجتهد ودمتم بخير
اضافة رد
+٠
-٠
٢
زائر
مقال رائع، سلمت الأيادي. كم نحن بحاجة إلى تمام الإنسانية في رفق الإنسان بأخيه الإنسان! لقد بلغنا مبالغ لا تقترب منها الوحوش في تصديها لأفراد جنسها، والله المستعان.
اضافة رد
+٠
-٠
١
الاسم ( اختياري )
قصدكم الكرسي لا يصنع الفرد وليس الإنسان
الكرسي ليس كل شي وليس اخر الزمان
اضافة رد
+٠
-٠
مقالات مماثلة للمؤلف:
هيئة الصحفيين بالأحساء تُعمّق الوعي المهني بورشة حول التأثير النفسي للإعلام
المؤلف: الواحة نيوز
برعاية سمو محافظ الأحساء.. وكيل المحافظة يفتتح معرض “بين بُعدين”
المؤلف: الواحة نيوز
بالشراكة مع أمانة الأحساء.. جمعية درر تطلق أول تطبيق فعلي للمجلس الاستشاري للطفل
المؤلف: الواحة نيوز
سمو محافظ الأحساء يطلع على جهود مركز عبدالله بن إدريس الثقافي
المؤلف: الواحة نيوز
أمانة الأحساء تعقد ورشة عمل لتحديد المؤشرات المحلية لبرنامج جودة الحياة
المؤلف: الواحة نيوز
جميع التعليقات و الردود المطروحة لا تعبر عن رأي (الواحة نيوز صحيفة ترصد نبض الأحساء لحظة بلحظة) بل تعبر عن رأي كاتبها.
2025 جميع الحقوق محفوظة, الواحة نيوز صحيفة ترصد نبض الأحساء لحظة بلحظة
تصميم خفاجى
إدارة التطوير مصطفى نصر
وطريقة الربط بين ميلغرام وأورويل وفتح مكة كان ذكي ومؤثر
٣
ناصرالعتيبي
الثقة بالنفس وتحمل المسؤلية بكل امانة واخلاص واداء الرسالة السامية بمصداقية داخلية فى نفس الشخص ووضع خدمة وطنة ومجتمعة نصب عينية ويختار فريق العمل بدقة لاداء افضل لاثبات الجود والسرعة فى الاداء هذا يستحق الجلوس على كرسي المسؤلية والله يعين كل مجتهد ودمتم بخير
اضافة رد
+٠
-٠
٢
زائر
مقال رائع، سلمت الأيادي. كم نحن بحاجة إلى تمام الإنسانية في رفق الإنسان بأخيه الإنسان! لقد بلغنا مبالغ لا تقترب منها الوحوش في تصديها لأفراد جنسها، والله المستعان.
اضافة رد
+٠
-٠
١
الاسم ( اختياري )
قصدكم الكرسي لا يصنع الفرد وليس الإنسان
الكرسي ليس كل شي وليس اخر الزمان
اضافة رد
+٠
-٠
مقالات مماثلة للمؤلف:
هيئة الصحفيين بالأحساء تُعمّق الوعي المهني بورشة حول التأثير النفسي للإعلام
المؤلف: الواحة نيوز
برعاية سمو محافظ الأحساء.. وكيل المحافظة يفتتح معرض “بين بُعدين”
المؤلف: الواحة نيوز
بالشراكة مع أمانة الأحساء.. جمعية درر تطلق أول تطبيق فعلي للمجلس الاستشاري للطفل
المؤلف: الواحة نيوز
سمو محافظ الأحساء يطلع على جهود مركز عبدالله بن إدريس الثقافي
المؤلف: الواحة نيوز
أمانة الأحساء تعقد ورشة عمل لتحديد المؤشرات المحلية لبرنامج جودة الحياة
المؤلف: الواحة نيوز
جميع التعليقات و الردود المطروحة لا تعبر عن رأي (الواحة نيوز صحيفة ترصد نبض الأحساء لحظة بلحظة) بل تعبر عن رأي كاتبها.
2025 جميع الحقوق محفوظة, الواحة نيوز صحيفة ترصد نبض الأحساء لحظة بلحظة
تصميم خفاجى
إدارة التطوير مصطفى نصر
قرأت المقال بتركيز فعلاً نص قوي وعميق
وطريقة الربط بين ميلغرام وأورويل وفتح مكة كان ذكي ومؤثر لغتك جميله والفكرة متماسكة كما عهدناك هذا مستوى الكُتاب
المحترفين فخورة فيك استاذاتي وقدوتي ❤️❤️
🤍🫂
مقال رائع، سلمت الأيادي. كم نحن بحاجة إلى تمام الإنسانية في رفق الإنسان بأخيه الإنسان! لقد بلغنا مبالغ لا تقترب منها الوحوش في تصديها لأفراد جنسها، والله المستعان.
قصدكم الكرسي لا يصنع الفرد وليس الإنسان
الكرسي ليس كل شي وليس اخر الزمان