يُوظف الفيزيائيون لفظي التنافر والتجاذب لتوضيح طبيعة عمل الأشياء بالقرب من بعضها البعض تحت تأثير نوع من القُوى التي يُعرف عنها باسم قُوى عدم الاتصال ،والتي تتمثل في الجاذبية والكهرباء الساكنة والمغناطيسية ،وتعتمد قُوى التجاذب أو التنافر بشكلٍ أساسي على شحنة الأجسام الكهربية في حالة مُقابلتها لبعضها البعض ،فالأجسام المُتشابهة الشحنة تتنافر والمختلفة الشحنة تتجاذب.
ويُستخدم في علم النفس الاجتماعي مُصطلح “التنافر المعرفي” للإشارة إلى الصراع الداخلي عندما تكون هناك فكرتين تُعارض كل منهما الأخرى مع المعتقدات والقناعات المغروسة بداخلنا ،فهذا التعارض يخلق عدم الارتياح وبالتالي يصعب إيجاد حل أو مخرج ،فالمُدخن يعلم بضرر التدخين وأنه يجب أن يكون بصحة جيدة ولكن التبرير بأن الموت سبيل كل حي والاستمتاع بالحياة لابد منه ،والطالب الذي يُقدر قيمة الصدق فقد يُواجه تنافرا معرفيا إذا غش في الامتحان ،وعلى الرغم من عِلمه بأن الغش أمر مستنكر إلا أنه يشعر بالضغط القوي للحصول على درجة جيدة ،وبدلاً من أن يتخلى عن فكرة الغش فإنه يشرع في تبرير ما يفعله بإخبار نفسه أن الكثير من الطلبة يفعلون هذا الأمر ،واحترام النظام وأداء الأمانة في العمل والجودة فيه دِين حث عليه القرآن كمبدأ يتنافر مع المصالح الشخصية التي يقرها المجتمع والتجاوزات التي يُمارسها ويعتبرها حقا يبرر التمييز بين المستفيدين للتشابه الطائفي أو العائلي أو غيره.
إن أحد أهم الأسباب التي يتبناها علم النفس الاجتماعي في تفسير ظاهر التنافر المعرفي هو أننا لا نملك الوقت والجهد لمراجعة وتحليل مجموع المعتقدات التي تدعم أفعالنا وسلوكنا اليومية ،وذلك لأن الحياة في المجتمع الإنتاجي الاستهلاكي يتطلب العمل بكفاءة وواقعية ،ولا سبيل في مثل هذا المجتمع للتأمل والتحليل ،كما أن المجتمع يفرض علينا نماذج من العلاقات لا ينبغي انتهاكها إذا كان الفرد لا يرغب في أن يبدو سيئا أمام المجتمع ،لذلك يلجأ الفرد إلى تطبيق هذه الصورة النمطية التي أثبتت فعاليتها ويتقاسمها ويألفها الجميع والنتيجة أننا لا نحل المشاكل التي نتعرض لها في حياتنا اليومية.
فكلُ ذلك يحدث بسبب تلك الحاجة الإنسانية المُلحة والضرورية إلى الأمن ،فنحن نفضل البقاء على الخطأ الآمن على حساب النجاح والتفوق المحفوف بالمخاطر ،والمُبرر لنا في ذلك إلقاء اللوم على المجتمع والناس والظروف بدلاً من الحاجة المُلحة إلى اكتشاف جهلنا وتقصرنا وضعفنا ،فما دُمنا مُلتزمين ومُتمسكين بما هو مقبول عموماً فإن المجتمع يظل مجتمعا متماسكاً ويُمكن التنبؤ به وبالتالي إمكانية التحكم فيه ،فالتناقضات صحيح أنها تزعجنا لأنها تجبرنا على إعادة التفكير فيما هو قائم ونُعيد تفسير الأدلة التي تتعارض مع مبادئنا المقبولة ونتشاركها ؛لأن الغالبية العُظمى منها في الواقع مبنية بناء اجتماعي ،ويدفعنا التنافر المعرفي إلى اسكات أي فكرة أو صوت أو حدث يتعارض مع ما كنا نعتبره أمراً مفروغاً منه.
فالفيزياء المجتمعية إن صح تسميتها تُقرر لنا حقيقة التنافر اجتماعيا في التشابه وبشاعته ،وحقيقة التجاذب اجتماعيا في الاختلاف والتمايز وجماله ،وأن حِرصنا وتأكيدنا الدؤوب لمفهوم التعايش بالتشابه بقوة الأمن الاجتماعي هو ما حرمنا من لذة الإبداع والتطور والانفتاح مع الآخر وكل ما هو جديد مُفيد يحمل أصالة التطوير ومواكبة الحاضر والتقدم بشحنة اختلاف التجاذب ( وَلَوْ شَاءَ رَبُّكَ لَجَعَلَ النَّاسَ أُمَّةً وَاحِدَةً ۖ وَلَا يَزَالُونَ مُخْتَلِفِينَ) هود 118
مبدع كعادتك في تسليط الضوء على هموم المجتمع، لاعدمنا هذا النمير..
التعليق
سيدي أبا محمد . . دمت جميلا . . مقالٌ رائعٌ وحقيقيٌّّ يزيح الغبار عن هذه الظاهرة الإجتماعية والتي هي موجودة شئنا أم أبينا . والأعظم من ذلك كتاب الله ( القرآن الكريم) اختلف المفسرون في تفسير آياته وهذا أعظم دليل على عظمة القرآن الكريم وإعجازه . كما أن هذا الاختلاف يؤكد صحة نظريتك الإجتماعية الرائعة . لك الورد كله بل أنتَ الورد كله . محبك . أبوحسن
احسنت بومحمد ترصد الظواهر الاجتماعية بذكاء وضوح وتعالجها بفطنتك وخلفيتك الثقافية العالية دمت بخير
إذا الاختلاف مطلب اجتماعي لتحقيق التجاذب
سلمت يدك من اروع المقالات التي قرأتها.
مقال محكم و متزن . اضف الى ذلك ان الشرارة التي يتولد منها النور و الدفئ و الحراره اللازمه للحياة هي نتيجة الاحتكاك بين حجرين صلدين منتشابهين فالتشابه و الاختلاف سنن كونيه ضرورية لسير الحياة و المجتمع كل منهن ضرورة حياتيه و مجتمعيه. ما نحتاجه النظر بروية الى عناصر قوتهما لتوظيفهن في توليد الافكار الجديده و الابتكار و كسر الثنائيه يا اما اسود او ابيض وصولا الى ابداع الوان الحياة الجميله.
نظرية المقناطيس في التاثير على تجاذب الافكار وتنافر الافكار من النظريات القوية