كعادتي اليومية خلال إجازتي في شهر يوليو ممارسة المشي على ضفاف نهر النيل وصولا إلى محطة الاستراحة في حديقة الحرية نهاية كوبري قصر النيل وأمام دار الأوبرا في الزمالك بالقاهرة ،وهي من الحدائق التي أنشأها الخديوي إسماعيل سنة 1876م لتحويل القاهرة لقطعة من أوروبا ،وأهم ما يميزها توزيع مجسمات شخصيات أعلام الثقافة والفكر العربية والعالمية في زواياها وبين أشجارها ونباتاتها المزهرة.
فالزائر عند دخوله الحديقة سوف يكون في استقباله مُجسم تمثال أمير الشعراء أحمد شوقي وهو أول اختبار له أمام فضول أسئلة المرافقين معه بالتعريف بهذه الشخصية وبتمثالها المميز والكبير وأخذه لصدارة ومقدمة مدخل الحديقة وواجهتها وتهافت الجمهور على أخذ الصور التذكارية بجانبها ،وقد يضطر أحدهم لتوجيه أحد الأسئلة حول الشخصية ومنجزاتها وتاريخها ،وحدث ذلك بالفعل أمام مسمعي عندما عرَّف أحد الزائرين أبناءه بشخصية أحمد شوقي ومكانته كأمير للشعر والأدب وأسرعت إليه بمداخلتي الغير مُتوقعة ،هل سبق لك القراءة لإنتاجه الشعري والأدبي ؟ فقال : لا ،فأنا لا أقرأ إلا في مجال تخصصي وعَمَلي فقط ،فانتابني من المشهد التفكير حول أساسيات وجود المعرفة وإشكاليات غياب العلم بها.
فالمعرفة تتعلق بذات الشيء والعلم يتعلق بأحواله ،والمعرفة تُفيد تمييز المعروف عن غيره والعلم يُفيد تمييز ما يُوصف به عن غيره ،والمعرفة تنصرف إلى ذات المسمَّى وأمَّا العلم فينصرف إلى أحواله من فضائل ونقائص ،كما أنَّ العلم يُقابله في الضدِّ الجهل والهوى وأما المعرفة فهي ضد الإنكار والجحود ،والمعلومات المتراكمة بالحفظ في أصلها تُسمى معارف ومعرفة سواء كانت خبرة تجريبيَّة أم فكرية ،فإذا رُتبت ونُظمت وكانت على قواعد ونسق كانت عِلمًا ،فأكثر استعمالات المعرفة في القرآن كان في مقام الذم كالجحود والإنكار والنِّفاق ،وهذه المواقف لم تكن لما وُصف أنَّه علم، بل لم يأمر الله تعالى نبيَّه بالدُّعاء له بالزيادة في شيء إلا في العلم} وَقُلْ رَبِّ زِدْنِي عِلْمًا{ طه:114 .
ولنأخذ مثالا على أساسيات وجود المعرفة وإشكاليات غياب العلم بها في قصة النبي موسى ع والعبد الصالح حيث أن الأحداث التي اشتراكا فيها كانت محط صراع بين إدراك المعرفة دون الوصول إلى تفاصيل العلم بها ،وأدت إلى نتيجة الفراق بينهما ونهاية حلقات التعلم بعد هذه الرحلة في تطبيق دور سُلطة العلم في حل المشكلات من خلال بوابة المعرفة ،وأنه لا سبيل لفهم الواقع إلا من خلال العلم ودوره في حل إشكاليات المعرفة والارتقاء بها والاستفادة منها.
فالمجتمعات الإنسانية عبر أفراده ومؤسساته ومنظوماته الإعلامية والتاريخية والدينية والاقتصادية والسياسية أمام خيار تفسير المعرفة ونقلها إلى العلم التجريبي والتحقيقي أو الوقوف أمامها كمعارف بلا عِلم ،وهذه النقلة هي الفارق بين الإنسان في تفسير الظواهر والأحداث والشخصيات على أساس علمي أو الاعتماد على المعارف بلا تحليل أو إدراك ،ونكون حينها ناقلين للمعرفة ولسنا عالمين بها وهذا ما يجعلنا مُتقدمين أو متأخرين عن الرُشد في الوصول إلى أفضل النتائج.
ماشاءالله تبارك الرحمن
تميز و إبداع استاذ بكر
دائماً قلمك يسطر أروع المقالات
التعليق
نعم هذا ما نحتاجه ( العلوم التطبيقية والتجريبية لتحول إلى عالم الإنتاجية الفاعل وهي الغاية من العلوم التحصيلية )، شكرا لك سيدنا الكريم لهذه الإلتفاتة
أحسنت سيدي أبا محمد . . . كلامٌ سليم وفي غاية الروعة وتأكيداً على قولك الرصين ماجاء في الحكمة : ((( العلم في الصدور وليس في السطور ))) !!! شكرا لهذا القلم النابض
إبداع ، بارك الله فيكم