وجدت قلبي يعتصر حين سقطت عيناي على صور قديمة لمرحلة سابقة من حياتي، وحين شممت عطرًا قديما انتابني ذات الشعور، والحال ذاته حصل حين سمعت أغنية قديمة. وهكذا تتكرر المشاعر ذاتها في كل مرة تلوح لي فيها ذكرى جميلة.
وحين أعود للواقع فعلاً وأسترجع الماضي أجد الواقع في ذلك الوقت لم يكن بذلك الجمال كما أسترجعه الآن حتى يبدو أنه حنين غير مبرر وفيض من المشاعر التائهة التي تجتاحني بين الحين والآخر، لكن عقلي بوعي أو بدون وعي يغيّب عني ألم تلك المراحل الماضية ويجلب لي جمالها ودفئها فحسب ومعها الكثير من الحنين.
ما أتحدث عنه يدعى “النوستالجيا” وهي حالة نصنعها نحن تحت ظروف معينة يتم فيها استرجاع مشاعر عابرة ولحظات سعيدة من الذاكرة وتصفية كل الألم الموجود فيها. وعادة ما تكون هذه المشاعر مصحوبة بالحزن أو ما أفضل تسميته بالحنين.
وقد صنف النوستالجيا سابقا كمرض شبيه بالاكتئاب حتى تطورت النظرة إليه لتصبح تجربة ممتعة جميلة يلجأ إليها الجميع، حيث قيل إن نحو ٨٠٪ من الناس يشعرون بها مرة على الأقل أسبوعيًا. وقد كان أشهر من تحدث عن النوستالجيا الكاتب الفرنسي “مارسييل بروست” حيث ذكر مرارًا الحالة التي كان يمر بها عند تناوله نوعا من الخبز المرتبط بفيض من الذكريات الدافئة الحنونة في طفولته.
ويميل الكثيرون نحو النوستالجيا ربما لأنها تدفعهم للرضا عن واقعهم حين يعتقدون أنهم قد عاشوا حالات رائعة في مرحلة ما من حياتهم وهي الأصل، وأن الوضع الراهن ومتاعبه ما هو الا دخيل. لذا يمكن اعتبار هذا الشعور حيلة نفسية للذهاب لمستقرٍ آمن ولو كان في الماضي.
وقد أدرك الوعي الجمعي قوة النوستالجيا وتأثيرها وأصبح يلعب على هذا الوتر لتحقيق أهدافه في الجوانب التجارية بالأخص كأن تُستخدم الأواني التراثية في مقهى ما أو تُشغل موسيقى قديمة ارتبطت في أذهان الكثيرين بمرحلة معينة، وشخصيات أفلام الكارتون المفضلة لدى جيل بكامله، بل حتى المباني التراثية الشعبية حيث يزداد الإقبال عليها بشكل واضح كدليل على قوة النوستالجيا وتأثيرها.
والآن وفي أيامنا هذه من يخبرنا بأننا نعيش حاليا الأيام التي سنشتاق إليها في قادم السنين؟ من يخبرنا أننا اليوم نعيش حالة الماضي ليومٍ ما قادم؟ وأن الحاضر حتمًا به من الجمال ما سنشتاقه رغم ما فيه.
ربما أعظم ما تمنحنا إياه النوستالجيا هو “تقدير الحياة” بكل ما فيها وإعطاء قيمة لجميع المراحل والمحطات التي نمر بها بحلوها ومرها. كما أنه ربما ليس من الجيد أن نعلق في الماضي، بل أن يكون نقطة لإضافة قيمة لكل ما في الحاضر ولصغير الأمور وكبيرها في تفاصيل الأيام التي نعيشها.