أن يكون عقاب المجرم التعذيب، بمختلف صوفه؛ جسديًا أو نفسيًا، في زنزانة ضيقة حارة صيفًا باردة شتاءً، مع طعام سيئ، هو ما اعتاد المجرمون على سماعه أو معايشته في السجون. لكن أن يكون العقاب داخل السجن بالقراءة، فهو منهج غريب وغير مألوف؛ وهو ما عالجه في قصته الجميلة الروائي الصربي زوران جيفكوفيتش.
وتبدأ القصة «المسماة المكتبة» بشخص جيء به إلى السجن، فسلّمه الحارس للشخص المكلف به (آمر السجن)، ليُنزل به العقوبة. وكان هذا الشخص – الذي يفترض أن يكون مجرمًا – يتوقع أن يكون عقابه من نوع أن يوضع في زيت مغلي، أو يقطّع أربع قطع مثلاً، لكن المفاجأة حصلت عندما قال له آمر السجن بأن هذه العقوبات هي من زمن القرون الوسطى، ولا تليق بسجن يُستخدَم الحاسوب والتقنيات الحديثة فيه.
وعندما تساءل عن العقوبة رد عليه آمر السجن بأن ما لديهم هو علاج وليس عقوبة؛ مضيفًا: لكل زمن جحيم، وجحيم اليوم هو المكتبة. ولم يستوعب السجين الموضوع كاملاً إلا بعد أن وضح له آمر السجن أنهم في هذا السجن اكتشفوا من بحث إحصائي أن (الصفة المشتركة بين أكبر عدد من نزلائنا، 84.12 بالمئة تحديداً، هي كرههم للقراءة. وكان هذا منطقيًا في 26.38 بالمئة من الحالات، لأنهم أميون. لكن ماذا عن الـ 47.71 بالمئة الذين يستطيعون القراءة، لكنهم لم يمسكوا كتابًا واحدًا في حياتهم، وكأن الكتب تنقل الطاعون؟ أما العشرة بالمئة المتبقية فهم يقرؤون من حين لآخر، لكنهم لم يجنوا غير إضاعة أوقاتهم، لأنهم لم يستفيدوا أبدا).
وهنا جرى نقاش طويل بين الشخصين: لقد جعلنا القراءة إجبارية على الجميع… فالغاية هي أن يتخلص نزلاؤنا من العيب الرئيسي الذي رماهم هنا. فلو أنهم قرؤوا أكثر لما كان لديهم الوقت ولا الدافع ليرتكبوا ما ارتكبوه. فالقراءة وسيلة علاجية فعالة لهؤلاء… ولهذا نحن نعتبرها علاجًا لا عقابًا، حتى وإن فات أوان العلاج. لكن الحقيقة أن الأوان لا يفوت أبدًا لتقديم العلاج المناسب.
وبعد نقاش آخر، وبعدما علم أن هذا المجرم أيضًا لم يقرأ كثيرًا، قال له: لا تقلق، سوف تتاح لك الفرصة لتعويض ما فاتك. بل سوف تعوض ما فاتك أضعافًا مضاعفة؛ فأمامك أبدية لا نهاية لها تقضيها في القراءة.
هنا فقط بالتحديد فهم السجين أن الحكم الذي سينفذ فيه هو سجن مؤبد مع القراءة، فقال مستغربًا: أهذا هو عقابي؟ أن أقرأ! رد عليه السجان: علاجك… لا شيء غير القراءة. سوف تجلس في زنزانتك وتقرأ، هذا كل ما ستفعله. لن يكون لديك أي التزامات أخرى، لكن يتعين علي أن أنبهك أن الأبدية زمن طويل جدًا، وقد تسأم القراءة بعد حين، وهذا ما يحدث لكثير من نزلائنا، فيحاولون عندها أن يذاكوا. كم من حيلة حاولوا خداعنا بها! يوهمونا أنهم يقرؤون، على رغم أنهم لا يفعلون، لكن لدينا طرق نكشف بها مكرهم. وفي تلك الحالات نضطر آسفين إلى استعمال وسائل عنيفة لإجبارهم على العودة إلى القراءة. وهي وسائل موجعة لمن يتشبث بعناده ويقاوم.
… وهكذا وبعد أن انتهى من تلاوة الأحكام عليه جاءه الحارس لكي يأخذه: «وبدأت أسير عبر الردهة مع الحارس نحو زنزانتي، حيث تنتظرني القراءة الأبدية».
وتُعَدُّ هذه القصة من النوع الذي يسمى «رواية الموزاييك، أو الفسيفساء»، وهي عبارة عن مجموعة من القصص التي تبدو قصصًا مستقلة، إذ يمكن قراءة كل واحدة منها على حدة، لكنها، عادةً، تربطها جميعًا القصة الأخيرة.
اعتقد ان هذا الموضوع جميل جدا و طريقة يكتنفها الابداع حيث انه لو كل واحد فينا اراد ان يقوم سلوكه عليه ان يسجن نفسه و لا داعي للسجان و يلزم نفسه بقراءة كتاب في مجال الخلل ثم يحرر نفسه. دائما كاتبنا المميز المهندس يوسف يعطي العلاج في احلى صوره
ماشاء الله شيئ جميل جدا
امة لا تقرأ ولو قرأت لتجاوزت الكثير من المحن
شكرا جزيلا لك أم أحمد.. تحياتي.. يوسف أحمد الحسن
ماشاء الله شيئ جميل جدا
امة لا تقرأ ولو قرأت لتجاوزت الكثير من المحن
التعليق
التعليق
يا له من عقاب هو بمثابة مكافأة لكن اذا كان أبديا لا أتصور كيف يكون؟؟
هنا قد تبدو المشكلة. شكرا جزيلا لك.
يوسف أحمد الحسن