الدكتور حمد المري يكتب: ميناء العقير.. وشواهده على التاريخ

التعليقات: 0
الدكتور حمد المري يكتب: ميناء العقير.. وشواهده على التاريخ
https://wahhnews.com/?p=89835
الدكتور حمد المري يكتب: ميناء العقير.. وشواهده على التاريخ
الواحة نيوز

يعتبر ميناء العقير الواقع على الساحل الشرقي للأحساء بالمملكة العربية السعودية ميناء من اقدم الموانيء في الخليج العربي ، ونافذة فريدة مطلة على التاريخ منذ القدم و مركزًا للتواصل التجاري والثقافي والحضاري بين الجزيرة العربية والعالم الخارجي، وشاهدًا على تحولات سياسية وأمنية هامة في مطلع ثلاثينيات القرن الماضي . ولا يقتصر دور ميناء العقير على كونه ميناءً تجاريًا فحسب ، بل هو رمز وطني خالد، ومثال على قدرة القيادة السعودية على الجمع بين السياسة والجغرافيا والاقتصاد في بناء الدولة الحديثة. و البوم يبرز في رؤية المملكة 2030 كموقع تراثي و واجهة سياحية تعكس مراحل تطور الدولة وتعزز التنمية الاقتصادية .

العقير في التاريخ القديم:
تشير الدراسات الأثرية إلى أن ميناء العقير كان مأهولًا منذ الألف الثالث قبل الميلاد، وكان محطة رئيسية للقوافل البحرية بين حضارات وادي الرافدين والهند وجزيرة العرب. لعب العقير دورًا محوريًا في شبكة التجارة البحرية القديمة، بما شمل تصدير التمور واستيراد المؤن والسلع الضرورية لسكان المنطقة .
ورد ذكر العقير في المصادر الجغرافية العربية باسم “العقير” أو “العجير”، حيث أشار إليه ياقوت الحموي في معجم البلدان كميناء لأهل البحرين والأحساء، بينما وصفه لوريمر في دليل الخليج بأنه من أقدم المرافئ على الساحل الغربي للخليج العربي، وكان مركزًا حيويًا لتبادل السلع والأفكار الثقافية بين شعوب المنطقة.
تشير الأدلة الأثرية إلى وجود أرصفة حجرية، مخازن تجارية، وقلاع دفاعية، تعكس عمق التنظيم العمراني والتجاري للمنطقة، ما يجعل العقير مركزًا حضاريًا متصلًا عبر العصور .

ميناء العقير الطريق الآمن للحاج :
قد كان ميناء العقير محط الرحال لكثير من حجاج البحر القادمين من السواحل الأخرى ؛ لأن الدول التي تعاقبت على حكم الأحساء كانت تؤمن قوافل الحج وترافقها الحجاج سرايا في حال المواجهات و تكون احياناً مناورات لمنع الاعتداء و قد ذكر ذلك المؤرخون الذين كتبوا في طرق الحاج .

شواهد العقير التاريخية الموجودة :
يحتفظ ميناء العقير شواهد تعكس أهميته الاستراتيجية والتاريخية : القلعة التاريخية: مقر إداري ودفاعي لحكام المنطقة وقادة الحاميات. السوق القديمة: مركز للتجارة وتبادل السلع بين التجار المحليين والقادمين من الموانئ المجاورة. الجمرك والمخفر البحري: أشرف على دخول السفن وتحصيل الرسوم الجمركية. الأرصفة الحجرية: استقبلت السفن القادمة من الهند والبحرين والعراق، وتعكس مستوى التخطيط الهندسي والتجاري للميناء. دور ميناء العقير في التاريخ الحديث في السياسة والأمن والاقتصاد :

خروج العثمانيين عام 1913م
كان ميناء العقير المنفذ الذي غادر عبره الجيش العثماني بعد استعادة الأحساء على يد الملك عبدالعزيز بن عبدالرحمن آل سعود – طيّب الله ثراه. مثل هذا الحدث نقطة تحول في مسار توحيد المملكة، إذ أعاد للقيادة السعودية السيطرة على أهم الموانئ الاستراتيجية على الخليج، ما عزز الأمن الوطني ومكن المملكة من تطوير علاقاتها الإقليمية والدولية و سيادتها التامة على أراضيها و سواحلها و وحدة أراضيها و سلامة مواطنيها بالأمن و الاستقرار و كذلك صناعة الأمن و الاستقرار العالمي لكون المنطقة نفطية واعدة ولوجود دلالات مؤشرات جيولوجية في الدول المجاورة والتقارب في التضاريس مثل ايران و البحرين والجرف القاري .

مؤتمر العقير 1922م استضاف ميناء العقير في ديسمبر 1922م مؤتمرًا جمع الملك عبدالعزيز بالمندوب السامي البريطاني برسي كوكس وممثلي العراق والكويت، وتم خلاله ترسيم الحدود السياسية بين المملكة والعراق والكويت. وقد اعتُبر هذا الإنجاز دبلوماسيًا مبكرًا رسّخ مكانة المملكة كدولة ذات سيادة، وأظهر قدرة القيادة السعودية على إدارة الأمن السياسي والإقليمي بحكمة وحنكة.

العقير وصناعة الاقتصاد السعودي – الامتيازات النفطية والدور الأمريكي
في مطلع ثلاثينيات القرن الميلادي، شهد ميناء العقير مرحلة جديدة من الانفتاح الاقتصادي والسياسي، تمثلت في منح الامتيازات النفطية للأمريكيين، وهو ما شكّل نقطة انطلاق لبروز المملكة كقوة نفطية عالمية لاحقًا , و بدأت المفاوضات حول امتياز بترول الأحساء عام 1933م بين الحكومة السعودية وشركة ستاندرد أويل أوف كاليفورنيا Socal ) ) سوكال ، وتم التوقيع الرسمي على الامتياز في ميناء العقير . حضر هذه المفاوضات الكاتب والرحالة اللبناني الأمريكي أمين الريحاني في كتابه ملوك العرب ، الذي وصف أجواء اللقاءات مشيدًا بحكمة الملك وحنكته السياسية في إدارة الحوار مع القوى الدولية .

العقير ورؤية المملكة 2030 و التنمية المستدامة :
أدرج ميناء العقير ضمن مشاريع التطوير السياحي والتراثي الكبرى، بوصفه موقعًا وطنيًا يعكس مراحل تأسيس الدولة السعودية. شرعت هيئة التراث وهيئة تطوير الأحساء في ترميم القلعة والأسواق والمرافق التاريخية، وتحويل الموقع إلى وجهة سياحية و منارة ثقافية عالمية تجمع بين الأصالة والتطور، مما يعزز الاقتصاد الوطني ويخلق فرصًا للتنمية المستدامة.

وفي الختام إن ميناء العقير ليس مجرد أطلال صامتة، بل صفحات ناطقة من ذاكرة الوطن، تحكي عن سفن رست على شاطئه وقوافل انطلقت من أرصفته بما تحمله تلك السفن من سلع حيوية منه و إليه ليكون منطقة إلتقاء ، ودول عظمى ألتقت على رماله لتصاغ فيه تلك الاتفاقيات التي تعكس شموخ القيادة وبراعة الدبلوماسية وعبقرية الجغرافيا ، وصناعة الأمن والاقتصاد والسياسة في المملكة لتغيّر تلك البنود مجريات التاريخ وعلى آثارها تتجلّى ملامح الدولة السعودية الحديثة. ويظل العقير منارة تذكّر الأجيال القادمة بهويتة الوطنية وسيادتة التاريخية، فهو شاهد صامت ناطق على مرحلة التأسيس السياسي الحديث للمملكة، ومثال على التمثيل الدبلوماسي المبكر الذي أدار من خلاله الملك عبدالعزيز العلاقات مع القوى الإقليمية والدولية بكل التعاملات السلمية التي أكسبت المنطقة الامن و الاستقرار ؛ بداية من ترحيل العثمانيين معززين مكرمين وبدون قتال وحقن دمائهم كمسلمين.

ومرة أخرى بعد مرور تسعة أعوام يكون في نفس المكان التفاوض مع الدول العظمى بحضور دول الجوار العراق و الكويت لترسيم حدود المملكة و الحصول على الإعتراف العالمي تمهيداً لفرض السيادة التامة ؛ و المفاوضات الأخرى مع الشركات الأمريكية بعد عدم الاتفاق مع الشركات البريطانية للتنقيب عن ما استودعه الله في باطن الأرض المباركة من خيرات ليعم الخيرعلى الوطن و ينعم بثرواته . و لوحة تعكس عبقرية الجغرافيا السعودية التي جمعت بين أمواج البحر الهادئة و رمال الصحراء الناعمة و مدونة للتاريخ الجميل أسهمت في بناء الدولة الحديثة، بما يجعل العقير مرآة للسياسة الوطنية والتخطيط الاستراتيجي لمستقبل واعد .

قائمة المراجع
1) دارة الملك عبدالعزيز، وثائق توحيد المملكة العربية السعودية، الرياض، ج1، 2002م.
2) عبد الله بن يوسف الشبل، مؤتمر العقير 1922م ودوره في رسم حدود المملكة العربية السعودية، مجلة دارة الملك عبدالعزيز، العدد 36، 2010م.
3) هيئة التراث السعودية، سجل مواقع التراث الثقافي الوطني، الرياض، 2023م.
4) وزارة الثقافة – هيئة التراث، تقرير المواقع التراثية السعودية في رؤية 2030، 2022م.
5) لوريمر، دليل الخليج، ترجمة دارة الملك عبدالعزيز، الرياض، 1995م.
6) ياقوت الحموي، معجم البلدان، بيروت، دار صادر، ج4، ص 180.
7) حمد الجاسر، معجم اليمامة، الرياض، دار اليمامة، 1981م.
8) أمين الريحاني، ملوك العرب، بيروت، دار الريحاني، 1934م، ج2، ص 211–215
9) التاريخ السياسي لإمارة الجبور في نجد وشرق الجزيرة العربية. الدکتور عبد اللطيف ناصر الحميدان، مجلة کلية الآداب، جامعة البصرة، العدد 16: 47، 1980.