الحج ليس مجرد شعائر تُؤدى في زمانٍ ومكان، بل هو رحلة العمر، ومحطة التزود الكبرى، ومدرسة ربانية يُعاد فيها تشكيل النفس والروح والعقل. فمن وقف بعرفات، وبات بمزدلفة، وطاف وسعى، ورمى الجمار، لم يعد كما كان قبل ذلك؛ لقد خاض تجربةً روحية عميقة، تجرد فيها من دنياه، ولامس فيها معنى الفناء بين يدي الله.
ولكن السؤال الجوهري الذي يجب أن يطرحه الحاج على نفسه هو: ماذا بعد الحج؟
الحج… بداية لا نهاية
يخطئ من يظن أن الحج نهاية الرحلة، أو تتويجًا للتقوى. إنه بداية جديدة، صفحة ناصعة تُفتَح في كتاب الإنسان، تبدأ بكلمة عائد كي أكون أفضل. لقد نادى الله الحجاج إلى بيته، وجعلهم ضيوفه، وغمرهم برحماته، ليعودوا كما ولدتهم أمهاتهم… فهل يعودون ليبدؤوا حياة النقاء، أم يعودون إلى سابق عاداتهم؟
مكاسب الحج الحقيقية
1. التحرر من التعلقات
في خلع الإحرام، نخلع التعلق بكل ما سواه تعالى: المال، المنصب، الأهل، والمظاهر. الحاج تعلّم أن البقاء لله، وأن الزاد الحقيقي هو التقوى، وأن ما عداه فانٍ.
2. الانضباط والالتزام
الحج يُربّي على الانضباط الزمني والمكاني. فلكل شعيرة وقتها وحدودها. وهذا الانضباط إذا امتد لما بعد الحج، شكّل منهجًا في الحياة، يُعيد ترتيب الفوضى اليومية بقيم ربانية واضحة.
3. الوحدة الإسلامية
في الحج، تذوب الفوارق. لا لغة، لا لون، لا جنسية، بل (أمة واحدة). هذه الوحدة إن استمرت في النفوس، لصنعت أمة قوية موحدة لا تعرف الفرقة.
4. الصفح والتسامح
من أعظم دروس الحج: التسامح. يسير الحجاج في الزحام، يخطئ بعضهم في حق بعض، فيعفون، ويبتسمون، ويتجاوزون. فهل نحمل هذه الروح معنا بعد العودة؟ هل نغفر كما غفر الله لنا؟
5. الإحساس بالفقراء
الطواف والمبيت والرمي والمسير تحت الشمس، تضع الحاج في حالة تقشف بسيطة تُذكّره بمن لا مأوى لهم ولا راحة. فيعود وهو أكثر رأفة بالمحتاجين، وأكثر عطاءً وتواضعًا.
ما بعد الحج: خارطة عمل
بعد الحج، ينبغي لكل حاج أن يكتب مع نفسه خطة التغيير، لا ليكون صالحًا وحده، بل ليكون من الصالحين المُصلحين.
• اجعل القرآن رفيقك اليومي.
• حافظ على صلواتك بخشوع كما كنت تصلي في مكة.
• صِل رحمك، وتواصل مع من هجرتهم.
• قدّم للمجتمع خدمة، فأنت الآن في مقام من شرفه الله بالحج.
• واجعل لسانك رطبًا بالذكر، كما كان قلبك في الطواف.
وأخيرًا…
يُروى عن الإمام زين العابدين (عليه السلام) أنه إذا عاد من الحج، بكى كثيرًا، فقيل له: “لقد غفر الله لك، فلمَ البكاء؟” فقال: “أخاف ألا يُقبل حجّي.”
إنها مشاعر من ذاق القرب، وخاف البُعد. فلنحمل من الحج يقين القبول، ولكن بتواضع السالك، لا غرور الواصل، ولنُثبت أننا جديرون بتلك النعمة، بحياة نقية، وسلوك نقي، وقلوب بيضاء تليق بمن وقف على عرفات، وعاد من أعظم الرحلات.
كلام الدكتوره معصومه جميل و مفيد ففيه إضاءات عن أعمال الحج و توعية طيبة للاستمرار. تأثير رحلة الحج بعد أداءها للحاج و من حوله و مجتمعه. 👍✅🇸🇦✅👍 سلمت يداك د معصومه على هذا المقال الرائع. د صالح محمد التركي
التعليق
شكرا لهذا الموضوع المتألق ونسأل الله تعالى أن يتقبل من كل حاج حجه ويحافظ على مكتسبات ذلك الحج ويوفقنا جميعا وجميع المؤمنين للحج والعمرات والزيارات إنه سميع مجيب بحق محمد وآله الطاهرين
شكرا لمرورك الكريم
ماشاء الله كلمات جميلة من روح اجمل تنبض بالانسانية …….
وفقكم الله لكل خير
التعليق
لم يأمر الله بعمل إلا و له فيه حكمة ، إن لم نقدّرها في وقتها فسوف نعرفها لاحقاً
للحديث عن نشاط الدكتورة معصومة وتنوع جهودها تجاه الوطن والمجتمع يطول الشرح ويسترسل القلم بلا توقف وخير شخير شاهد على ذلك كتاباتها ومشاركاتها بالمحاضرات والمحافظ ومن أبرز أعمالها في المجلس البلدي ربنا يزيدها تالقا. محمد النعيم