عندما سألت الشاعر الكبير جاسم الصحيح عن علاقته بالقراءة أجاب: القراءة بالنسبة لي هي الرئة الأولى لا الثالثة، ومن خلالها أتنفس الحياة في حاضرها وماضيها ومستقبلها. أما عن قراءة الكتب خاصة، فأنا أركز على الكتب الفلسفية والفكرية والتاريخية، والدواوين الشعرية والروايات. قراءتي قد تكون نوعية جدًّا، ولكنّ الأهم أنني لا أشعر باكتمال قراءة أيّ كتاب حتى أتأكد أني فهمته وامتصصت مادته إلى درجة القدرة على تلخيصه.
ولا يحتاج المستمع إلى قصائد شاعرنا الكبير إلى كثير جهد لكي يستنتج أن الحشد الهائل من مفردات الجمال وتعابير الدهشة في قصائده يستبطن جهدًا هائلًا قد بذل في عالم القراءة والاطلاع. فأنت تجد لفتة جميلة في كل سطر، ومفاجأة رائعة في كل بيت، وتعابير لافتة في كل قصيدة. ولا يمكن لهذه القصائد الرائعة أن تأتي من فراغ، أو أن تكون حصيلة قراءة يوم أو اثنين أو سنة أو اثنتين، بل هي ثمرة عمل تراكمي على مدى سنوات طويلة من المطالعة والقراءة المركزة والفاعلة، لم يكن “الصحيح” خلالها ينتظر النتيجة السريعة، بل جاءت نتيجة طبيعية للعلاقة التي لا تنفصم عراها بينه وبين الكتاب لكي يقول بكل تواضع:
في صفحة الكون آيات مسطرة
ترويك أوضح مما جاء في الكتب
نصوصه تلامس الوجدان، وتصيبك بالدهشة، وتتشكل كمخلوق لطيف يغوي حبيبه، وينسج شراكه حوله حتى إذا وقع في أسره التحم به حتى التوحد، ولم يجد أحدهما عن الآخر فكاكًا.
يقول “الصحيح” عن مصدر الإلهام في شعره: فالقصيدة قد تأتي من القصيدة عبر القراءة والتأثير والتأثر، فنحن عندما نقرأ قد نتأثر جماليًّا إلى درجة أنّ تلك القراءة توحي لنا بالكتابة، وهكذا يأتي الفن من الفن. ويضيف: “الشعر هو أيضًا هندسة الذات بالكلمات، فالهندسة جزء من تكوين القصيدة… والقراءة هي الخطوة الأولى للكتابة، إن لم تكن هي الكتابة ذاتها، ولكن على ورق المشاعر والأحاسيس” (صحيفة الخليج – 8 يناير 2022). ولذلك فإن شاعرنا- حاصدَ الجوائز المحلية والعربية وله نحو أحد عشر ديوانًا- يؤكد على أهمية القراءات التثقيفية للشاعر في حياته المهنية، كما يؤكد على أهميتها للإنسان العادي حين يقول: إن القراءة التي لا تُفضي إلى تغيير خارطة الوعي ليست قراءة. داعيًا كل من يقرأ إلى أن يكون على أهبة الاستعداد للتغيير بين لحظة وأخرى. عادًّا إياها “وسيلة الخلاص الناجعة حينما تكون الذات هي السجينة”، مميزًا لها بأنها “وسيلةٌ مشروطةٌ بالاستعداد الذاتي لهذا الخلاص.. الاستعداد للتخلُّص من المرشد أو شيخ الطريقة كما يقال”. ويضيف: أما “القارئ المتعصب لأفكاره لا يرى في الكتب والمعلومة الجديدة سوى أعداء يجب القضاء عليهم”. “ولا شكّ أنّ القراءة تتمثل في مستويات عديدة أو طبقات متراكمة تعتمد على القارئ في الحصول على استحقاقه منها حسب نموّ ثقافته، لذلك فإنّ القارئ في بداياته لا يمكن أن يستثمر أيَّ كتابٍ يقرؤه كامل الاستثمار؛ إذ دائمًا ما نستطيع أن نعود إلى ذات الكتاب في مراحل لاحقة، ونجد أنفسنا قادرين على الاستفادة منه من جديد، وكأنَّ الكُتُبَ كالأنهار لا يمكن أن تسبح فيها مرتين” (جريدة الرياض- 22 أغسطس 2015).
ويضيف “الصحيح”: لذلك، سبقَ أن قلتُ، وأقول الآن للقارئ: لا تكن قارئًا متعاليًا على ما تقرأ، ولا حتى قارئًا مثاليًّا يعيش طوباويَّة الفكرة.. كن فقط قارئًا طفلًا؛ يتجول في شوارع المعرفة، ويدخل في حوانيت الدهشة، ويقتني ما شاء من تُحف الأفكار والمعاني. كن قارئًا متورِّطًا بالجمال حدّ الفتنة، مؤمنًا أنّ كلّ محطات الحروف هي مواسم عطاء وبيادر حصاد، متيقِّنًا أن الكلمات التي تأخذها الريحُ لا تذهب بها إلى المجهول، وإنما إلى عذوق النخيل رحيقًا يلقِّح سلالة الحياة.