يتفاوت الناس في تفاعلهم مع الصدمات، لكن أكثرهم إيجابية هو من يخرج منها بأسرع وقت ويقوم باستثمارها لصالحه. وقد تناول الكاتب الكبير توفيق الحكيم في مسرحيته (الطعام لكل فم) قصة خيالية لافتة عن شخص أصيب بصدمة عندما حصلت له مشكلة في شقته بتسرب المياه عليها من شقة جارته العلوية. فبعدما كان يحاول (مع زوجته) أن يتقدم بشكوى ضد هذه الجارة، لاحظ تحول الجدار الذي تأثر بالرطوبة إلى شاشة تعرض أحداث جريمة قتل حصلت في مكان ما. فما كان منه (مع زوجته) إلا أن تركا كل التزام لديهما وتحولا نحو متابعة أحداث تلك الجريمة على جدار شقتهما الذي كان يعرض تلك الأحداث.
وكان من بين الأطراف التي وجدت نفسها في مجريات تلك الجريمة عالم متخصص في الغذاء كان على أعتاب الوصول إلى كشف علمي يمكن أن يوفر الطعام لجميع ساكني الكرة الأرضية بأسعار رخيصة للغاية بحيث يصبح الطعام بالفعل لكل فم. وقد لفت هذا الكشف ساكن هذه الشقة الأمر الذي دفعه بعد أن اختفت الشاشة من على جدار منزله إلى أن يتوجه نحو القراءة المكثفة وترك الحياة التافهة التي كان يعيشها قبل هذه الحادثة. وكان قبل هذه الأحداث يقضي جل وقته في أحد المقاهي في ألعاب تافهة يحرق بها أوقات فراغه. وقد كان تفرغه للقراءة واقتناؤه لعدد كبير من الكتب وقضاء أوقات طويلة معها مثار تعجب كبير من قبل جيرانه ومعارفه، خاصة أن زوجته وقفت إلى جانبه في هذا التوجه الذي كان يأمل منه أن يتحول إلى عالم أو مفكر مفيد للبشرية.
وربما كان الكاتب الكبير توفيق الحكيم يحاول عبر هذه المسرحية (المطبوعة في كتاب بنفس الاسم) أن يوحي لقرائه أن القراءة يمكن أن تكون علاجا لبعض المشاكل والحالات المرضية أو لبعض الصدمات النفسية الناجمة عن بعض المواقف. رغم أن (الوعي لا يجعلك تحل مشكلاتك وتنهي معاناتك، بل يجعلك تتسامى عنها، فيكون الحل تلقائيًا بلا جهد) كما قال بذلك الفيلسوف الأمريكي ديفيد هاوكينز.
ولأن القراءة يمكن أن تكون حجر الأساس لتطور الإنسان عبر مراكمة المعارف بمرور الزمن، فإنها يمكن أن تخلق صدمة قوية للقارئ توقظه من سباته وتنقله من حال لآخر، أو إنها تستخدم كعلاج لبعض الصدمات أو الأمراض النفسية. وممن قام بتأصيل هذا العلم كاتبتان من بريطانيا هما إللا برتهود وسوزان الدركن، وذلك في كتاب أصدراه تحت عنوان (العلاج بالرواية: العلاجات الأدبية من الألف إلى الياء)، وذلك بالتعاون مع جامعة كامبردج في دراسة استمرت لخمس وعشرين عاما قاما خلالها بقراءة ودراسة مئات الروايات التي صدرت منذ مئات السنين وحتى اليوم. وتؤكد الكاتبتان على أن لديهما علاجات لجميع الأمراض النفسية عبر أكثر من 700 رواية. فمثلا ينصح الكتاب باعتماد رواية مائة عام من العزلة للتغلب على الخوف، ورواية ذهب مع الريح لعلاج التكبر والغرور، ورواية Wolf Solent لعلاج الإدمان على الإنترنت، علاوة على عدد كبير من الأمراض النفسية. كما يستقبلان أي حالة نفسية عبر عيادة خاصة بهما.
وتقوم فكرة علاج الأمراض النفسية على أساس أن قراءة الروايات تجعل حالة الإنسان النفسية تتحسن كونها تمكنه من إدراك الأشياء بشكل أفضل وترفع من ثقته بنفسه من الناحية الاجتماعية. ولذلك قال أحد الحكماء بأنه يجب أن يتم إعطاء المريض كتابا جنبا إلى جنب الدواء.
* أن تكون بعض الكتب قادرة لهذه الدرجة على هز ضميرنا وترك العالم يمضي في أسوأ الطرق، فهو أمر يدعو إلى الذهول. الكاتب الفرنسي دانيال بناك