غسان بوخمسين يكتب: خواطر في المشي ‏

التعليقات: 0
غسان بوخمسين يكتب: خواطر في المشي ‏
https://wahhnews.com/?p=89368
غسان بوخمسين يكتب: خواطر في المشي ‏
الواحة نيوز

المشي الطليق فعل غنائي يفتح عين السائر على جميع الجهات، ‏وعمل شعري، له إيقاعه الذي يختلط فيه الصمت بالحركة، وهو ‏فعل رتيب يربط بين خطوة وأخرى تشبهها، وبداية تغلقها نهاية، ‏وتجربة يتأمل الفكر فيها أحكامه، ومجال للتذكر والاستبصار ‏مشبع بالهدوء والوحدة. المشي فعل تحرري من أسر وحبس ‏الجدران المغلقة، وكأنه صرخة في وجه الكبت والجمود ‏والسكون والحصر والقولبة في أطر محددة تخنق الروح ‏والجسد. المشي ثورة على القيود والأغلال للإنطلاق في فضاء ‏الحرية المفتوح . المشي أصل أصيل ومظهر جلي للمظاهرات ‏والمسيرات الاحتجاجية السلمية المتحضرة. المشي رياضة صحية ‏للبدن ومجانية لا تكلف شيئاً،

ومنافعها عظيمة على الروح ‏والجسد. فالمشي في الهواء الطلق والجو المعتدل يحسّن ‏المزاج ويريح النفس ويصّفي الذهن ويزيل الكآبة والسأم.‏

فوائد المشي الصحية أكثر من أن تحصى ، فهي أكثر رياضة ‏ينصح بها الأطباء المرضى والأصحاء على السواء، وهي من ‏أفضل الرياضات لمرضى السمنة والسكري وارتفاع ضغط الدم ‏وغيرها من الأمراض المرتبطة بالسمنة. للمشي آثار إيجابية على ‏البدن ، فهو يساعد على حرق السعرات الحرارية بشكل أفضل ‏وهذا يخفض الوزن، وكذلك يُحسّن من حساسية الخلايا ‏للأنسولين وهذا مهم لمرضى السكري، ويساعد على خفض ‏الدم المرتفع ، ويحسّن الدورة الدموية وهذا يساعد على وصول ‏الأكسجين للخلايا بشكل أفضل ، ومع استمرار المشي لمدة ‏تزيد عن نصف ساعة يبدأ إفراز الأنكفالين التي لها دور في ‏تحسين المزاج وتخفيف الالم ، بل أن المشي يؤدي إلى زيادة ‏حجم ‏‎”‎هيبوكمبس‎”‎‏ الحصين ، وهي منطقة في الدماغ ضرورية ‏للذاكرة، كما يرفع مستويات الجزيئات التي تحفز تكوين روابط ‏عصبية بين الخلايا وانتقال الرسائل العصبية.

فالمشي له تأثير ‏خاص لا يمكن الحصول عليه عبر ممارسة الأنشطة الرياضية ‏الأخرى مثل الذهاب للنادي أو رفع الأثقال، فعندما نمشي فإن ‏وقع خطانا يتناغم طبيعيا مع المزاج والحديث الداخلي داخل ‏أنفسنا. كما أنه يمكننا تغيير سرعة هذه الأفكار عبر تغيير سرعة ‏المشي.‏

لي تجربة شخصية مع المشي، فقد التزمت بممارسة المشي ‏بانتظام في أروقة المستشفى في أوقات فراغي ما أمكنني ‏ذلك، وعندها لاحظت أن المكان يعجّ بالحياة وينبض بالحركة، ‏وصرت ألحظ مشاهدات بعين مختلفة لم أكن ألحظها في ‏السابق، بسبب انشغالي وتواجدي في مكان واحد ومعزول عن ‏الأماكن المحيطة.‏
‏ ‏
لا عجب أن كان المشي ملازماً للفلاسفة والمتأملين منذ القدم، ‏ومن أشهرهم المعلم الأول ‏‎( ‎أرسطو)، فقد كان محباً للمشي ‏وكأنه تفطّن بعبقريته الفذة لفوائد المشي للعقل والجسم معاً، ‏فكان مدمناً للمشي حتى أنه كان يعطي دروسه لطلابه أحياناً ‏وهو يمشي، ولذلك سميت فلسفته بالمشّائية (‏Peripatetics‏).

‏كما عُرفت المدرسة الرواقية (Stoicism) بهذا الاسم نسبة إلى ‏الرواق، وهو ممر طويل مزين بمشاهد المعارك الأسطورية ‏والتاريخية على الجانب الشمالي من الأجورا ‏‎(Agora) ‎في أثينا، ‏وقد اعتاد الرواقيون المشي فيه أثناء مناقشاتهم الفلسفية. كما ‏أن المشي طقس أصيل في الرياضات التأملية في الديانات ‏الشرقية كالبوذية وغيرها.‏

المشي يعتبر جزءاً من العبادة في الإسلام، فالمشي الى ‏العبادة عبادة، فقد ندب الشارع المقدس إلى المشي في ‏الصلاة والحج . كان الأئمة والصالحون يحرصون على الحج ‏والزيارة مشياً، لما في ذلك من الثواب الجزيل، والعجيب في ‏فريضة الحج أن معظم مناسكه ترتكز على المشي كالطواف ‏والسعي والرمي فكلها عبادات بدنية قوامها الأساس هو ‏المشي.‏

‏ ومن أكبروأعظم تجليات ممارسة المشي في الشعائر العبادية ‏في زمننا الحاضر، هو شعيرة المشي في زيارة الحسين عليه ‏السلام، حيث تسير اليه الملايين في عدة مواسم خلال السنة، ‏بأعداد تصل لعشرات الملايين في تظاهرة دينية إنسانية فريدة ‏من نوعها. ‏
والايات القرآنية التي تحث على المشي كثيرة منها قال تعالى: ‏‏(قُلْ سِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَانْظُرُوا كَيْفَ بَدَأَ الْخَلْقَ ثُمَّ اللَّهُ يُنْشِئُ ‏النَّشْأَةَ الْآَخِرَةَ إِنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ‎( (‎سورة العنكبوت ‏‏20) كذلك دُعينا للسير في الأرض وقراءة كتاب الحياة والتأمل ‏في مآلات السابقين.‏

‏ قال تعالى: (قُلْ سِيرُوا فِي الأَرْضِ فَانظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ ‏الَّذِينَ مِن قَبْلُ كَانَ أَكْثَرُهُم مُّشْرِكِينَ ‏‎( (‎سورة الروم 42).‏
‏ قال تعالى (وَأَذِّن فِي النَّاسِ بِالْحَجِّ يَأْتُوكَ رِجَالا وَعَلَى كُلِّ ضَامِرٍ ‏يَأْتِينَ مِن كُلِّ فَجٍّ عَمِيقٍ‎( (‎سورة الحج 27) ‏

نعاني في حياتنا اليومية من نمط معيشي صاخب ذهنياً بحيث ‏يُجهد ويـشغل عقولنا إلى حدودها القصوى ، لكن من جهة ‏أخرى هو خامل بدنياً بحيث لا نقوم بأي نشاط بدني لنحافظ ‏على سلامة ذهننا وبدننا ، وهذا أحد مكامن الخلل في حياتنا ‏المعاصرة. علينا أن نجعل من المشي ركناً أساسياً في حياتنا ‏وجزءاً أصيلاً من سلوكنا اليومي لا نتخلى عنه.‏

للأسف مع توفر وسائل النقل وصعوبة الطقس لدينا في الصيف، ‏أدى ذلك إلى ضعف ثقافة المشي لدينا ، وحبذا لو حاولنا ‏إشاعتها والسعي إلى نشرها بين أوساطنا ، فهي مجانية ‏وبسيطة وفوائدها عظيمة ولا تحتاج إلى أدوات خاصة، بل تحتاج ‏فقط إلى إرادة وعزيمة للانطلاق في السير في درب الحياة ‏بكل حيوية ونشاط.‏

 

التعليقات (٠) اضف تعليق

اضف تعليق

بريدك الالكترونى لن نقوم بأستخدامه.

You may use these HTML tags and attributes:
<a href="" title=""> <abbr title=""> <acronym title=""> <b> <blockquote cite=""> <cite> <code> <del datetime=""> <em> <i> <q cite=""> <s> <strike> <strong>